جمالية الشكل تحت رحمة القوارض
[wpcc-script type=”68c68ad25147c9662ac63ff2-text/javascript”]
إذا ما انطلقنا من رؤية تركيبية، للعناصر المؤسسة لهوية الشكل، فإننا لا محالة سنتأكد من استحالة اختزالها في مجرد قشرة خارجية، مضافة إلى بنية الباطن، أو في محض طلاء تزييني، يهدف إلى إثارة متعة حسية عابرة، تفرح العين الرائية بالتملي في حسن بريقه، كما أن هذا الاختزال سيكشف عن حضور رؤية مغلوطة، تجاه كل من مفهوم الشكل، ومفهوم الظاهر، إلى جانب كونه سيكشف أيضا، عن حضور رؤية تبسيطية، لا ترقى إلى إدراك ما ينسجانه معا من علاقات جدلية مع ذلك «النقيض» المحتجب، الذي يتعارف عليه باسم «الباطن»، والمعتمد عادة في تفسير الظواهر، وأيضا في تأويل ما تنطوي عليه من حقائق وأسرار، علما بأن الباطن المتخفي، هو في الأصل السند، الذي تتأسس عليها هوية الشكل، بدون أن يكون ثمة بالضرورة أي نوع من التماهي أو التطابق بينهما، بحكم تنوع وتعدد الوظائف والدلالات الخاصة، التي يجترحها كل عنصر من هذه العناصر، بطريقته المستقلة به، وهو بصدد نحته للدلالات الكلية والمشتركة الفاعلة في إخراج الشيء من ظلمة المجهول إلى ضوء المعلوم . فالقول الإبداعي، على سبيل المثال لا الحصر، يمتلك جماليته الشكلية، التي ينزاح بها تماما عن أنساق الأقوال العادية، أولا، بوصفه قولا دالا، وثانيا، وهو المهم، بوصفه العتبة الرمزية، التي يفضي شكلها إلى إمكانية إدارة حوار مغاير، حول خاصية الجمال الكامنة فيه.
أي باعتباره قولا، يحيل على تجليات وجود مختلف، ذي طبيعة تخييلية، تنتظر منا مقوماتها أكثر من مساءلة، وأكثر من حوار، بمعنى أن «الشكل الخارجي»الذي يتقمصه الشيء – عملا فنيا كان أو طبيعيا – هو في حد ذاته، مقترح وجود مغاير في لحظة كمون نسبي، فضلا عن كونه مؤهلا لإثارة أسئلته الفكرية أو الإبداعية، المنتمية إلى عوالمه، التي لا تتماس بالضرورة مع الأسئلة الخاصة بما ينتظم في حكم الجاهز والمعطى، كما أنه مؤهل أيضا، لتحقيق حضور معرفي، ذي طبيعة إشكالية مستقلة بقوانينها، ومهيأة لاستقطاب اهتمام تلق، يتميز هو أيضا باختلافه ومغايرته، ليس بسبب كون الذات المعنية به، مجرد شبكة من الأعصاب، تسري في أليافها شحنات متتالية من الأحاسيس البسيطة، والمنفعلة آليا بإيماءات شكل ما، بل لأنها فضلا عن ذلك، ذات مركبة، ومعنية بالتفكير والتعرف على قضايا وإشكالات، تتفرد بقدرتها الاستثنائية على زرع بذور التساؤل والاستفسار، في ذاكرة أجسادنا، بحجة أن ما يخالجك من اهتمامات، هو في الواقع نتاج رؤيتك الذاتية والخاصة لمسارات الكينونة ودلالاتها، بمجموع ما تمتلكه هذه الكينونة من أبعاد معرفية وإنسانية. والجدير بالذكر، أن «مسألة» الاهتمام المتعلقة بأشكال العالم، تعني ضمنيا، مسألة فتح حوار تفاعلي مع هذه الأشكال، على ضوء ما تتمتع به مقومات الحوار، من قدرات متقدمة على تحقيق خاصية الفهم، والتفسير، والتفكيك والتركيب، حيث يؤدي وقوع أي خلل في آلية اشتغالها، إلى النيل من أهمية العناصر المساهمة في تكوين بنية الشكل /الشيء، علما بأن «مسألة» الاهتمام /الأهمية، التي تعنينا في هذا السياق، مقترنة باشتغال قوة الحدس، التي نهتدي ببوصلتها إلى المناطق اللامرئية، والمحتجبة تحت ظاهر الشكل، كي نكتشف أبعادها الغامضة والمستترة، حيث يؤدي أي تعطل محتمل في آلية اشتغال الحدس، إلى انفلات وضياع نسبة كبيرة من حقائق الشكل /الشيء، ذي الطبيعة الجميلة، المدهشة، أو المقززة، فتظل مجهولة، أو محتفظة بغموضها.
أن «مسألة» الاهتمام المتعلقة بأشكال العالم، تعني ضمنيا، مسألة فتح حوار تفاعلي مع هذه الأشكال
لذلك، فإن الأصل في قوة وعمق التعرف، أو ضعفه وسطحيته، يعود بالدرجة الأولى إلى قوة أو ضعف الحدس بتلك الإشارات الخفية، التي يحاول الشكل الجميل، أو القميء توصيلها إلينا. وبصرف النظر عن الطابع الفطري الذي تتميز به سلطته، فإنه يظل في أمس الحاجة إلى التثقيف، والتربية والتكوين، من خلال تعويده على استجلاء أسرار الإشكاليات الفكرية والجمالية، التي تعتبر من وجهة نظر التلقي التقليدي، منتمية إلى مجال الالتباسات»الغريبة»عن حياتنا «الطبيعية». وكما هو معلوم، فإن الإبداع الفني، يعتبر أحد أهم المجالات التي تنشط فيها هذه الالتباسات، التي تحتاج مقاربتها إلى توافر منهجيات متخصصة في فك شيفرة ما ينتظم داخلها من علاقات متشابكة، وملتبسة بين الشكل، وما هو محتجب فيه، التي يجسد الحدس أحد أهم مكوناتها، لسبب أساسي، يتمثل في كون مجال الالتباس، عبارة عن عالم تركيبي ومضاعف بامتياز، قائم الذات، ومستقل إلى حد ما عن الواقع المعيش، من منطلق انتقائه الدقيق، لأهم ما يتواجد في هذا الواقع من مقومات مهيأة سلفا، لتجاوز حدها المألوف والعادي، إلى مستوى، إثارتها للدهشة والتساؤل، والاستغراب، وهو مستوى موجه بقوانين التحول الجمالي، المميز لخاصية الشكل، حيث سيكون على الحدس أن يتموضع في تضاعيفها، من أجل ضبط الإيقاعات الجديدة واللامتوقعة، التي أمست عليها مكونات الواقع المعيش، وقد حققت استقرارها، وتواجدها في قلب ديناميته التحويلية.
ولعل طرحنا لسؤال الأدوار التي يقوم بها الحدس، في الإحاطة بكيمياء الشكل، يستمد ملحاحيته من غياب قوانين إجرائية، وجاهزة، مؤهلة لمقاربة ما يتضمنه هذا الأخير من حقائق وإبدالات، خارج مدونة القوانين المسكوكة، المتداولة عادة على الصعيد الأكاديمي، التي لن تفي بالكشف عن تلك الأسرار المستترة هناك، بعيدا عن كل تناول ميكانيكي، وعن كل إسقاطات تشريحية وتجزيئية، قد يتحول معها الشكل إلى مجرد مؤثث تكميلي، لا أقل ولا أكثر، علما بأن تواصلنا المباشر معه بوصفه رمزا مرئيا وملموسا، يقوم على أساس اعتباره البنية الأساس، التي يتولى الحدس الكشف عن أبعادها، بصرف النظر عن مرجعيتها، التي يحدث أن تنتمي إلى موروث ثقافي قديم، يظل معها الشكل «أوالمؤثث التكميلي!» محتفظا براهنيته،على ضوء لازمنيته النسبية، وكذلك على ضوء قابليته للتفاعل مع انتظارات القراءات المستقبلية، بفعل امتلاكه لإشكالات فكرية وإبداعية، تتميز بحيوية وحركية انفتاحها، بما يؤثر في توجيه مجرى الأسئلة، التي ينبني بها وعينا المعرفي والجمالي، كما هو الشأن بالنسبة لمسارات النصوص الإبداعية، والمنجزات الفنية المتعلقة بالفنون المعمارية، التشكيلية والموسيقية، مع العلم أن هذا الانفتاح، يكون معززا عادة بتزكية القراءات المتخصصة، باعتبار أن انفتاح الدلالة على الفهم والتأويل، لا يمكن أن يتحقق إلا على ضوء قابلية التلقي، للتصالح والتواصل الخلاق، مع إشارات اللغات المقبلة باتجاهه، سواء كانت من عمق الأزمنة القديمة أو الحديثة. بمعنى أن التواصل يتحقق هنا، على أساس التفاعل المزدوج، القائم بين النص وقراءاته، ما يستدعي توافر الخبرة بآلية تشغيل طاقات الحدس، والجزم بفكرة اكتفاء الأشكال المخترقة للأزمنة، بهامش ضيق من المقروئية، حيث يتعذر عليها استمالة القراءات العامة واستقطابها، وهو ما يفسر عمق ما تكابده من عنف إقصائي، قوامه هوس شبه عدواني بتقشير لحاء الشكل، بحثا عن نواة لا تلبث هي أيضا، أن تفقد فاعليتها فور زوال هيئته، لسبب واحد أساسي وجوهري، مفاده أن الشكل، أو إن شئت «الجلد» الذي نحن بصدد الإشارة إليه الآن، لا علاقة له من قريب أو بعيد، بجلد السيدة الأفعى، التي تتخلص منه، كلما دعت الضرورة لذلك، كي تقدمه من حين لآخر، هدية مجانية لجشع القوارض.
شاعر وكاتب من المغرب