الحاجة إلى أفكار جديدة
[wpcc-script type=”a6ed811229843d4ed29f4b6a-text/javascript”]
■ لم يشفع الشاي لأفكارها المشتتة وسوحها في الماضي، رغم أنها وضعت اسطوانة فرانك سيناترا على الحاكي في الوقت نفسه الذي علقت فيه جوارب شارل إزنافور على مقبض النافذة، فقد بقي الضوء يبحث عن عتمة كي يكون مفتونا بنفسه، رغم برق الإطلاقات النارية من المدافع القديمة التي أذابت الأجزاء العلوية من الثلوج، التي تساقطت طوال يناير/كانون الأول، وكان النفاذ قد بدأ من اللون الأزرق ثم تدرج باللونية نفسها نحو البحر، وهناك كان الأفق مجديا لو اكتسى الداكن من السواد.
تهيأت ورمت قفازيها، ثم رمت حاملة الألوان المائية، وفكرت بشيء جديد وهي تحتسي الشاي وتكتفي بالنظر إلى علبة السكائر.
كانت يداها تتناوبان الحراك ما بين وجنتيها وعندما لا تصلها الفكــــرة المطلوبة فإنهما يتناوبان الحراك بين صدغيها بشيء من الشدة للتأثير على الرؤى المتناقضة في وضع الاختيار المناسب للطائر الذي ما زلت الألوان ممسكة بجناحيه.
لقد علمتها المدرسة الفرنسية طرائق مختلفة للتعبير عن الاغتراب والتعبير عن الجنس، وكذلك عن الأمل وعن الموت، ولكنها من خلال ترحالها في بلدان المجاعة والتجوال بقطاراتها المنهكة وباصاتها العارية، اكتشفت بدائل عن موجوداتها السالفة، فلاشك في أنها ستصل لفكرة جديدة عبر التراب والدخان والأحياء البوهيمية والحانات ومطاعم الدرجة السابعة بروادها أصحاب القوارب، وقطعا مع القردة والفيلة ومع أسلاف المهراجا ومع مُرقصي الثعابين ونافخي النيرانَ من الأفواه، وهي تُقرب مخيلتها من أناملها.
لتضع طائرها في المكان المناسب، تذكرت شاربيّ سلفادور دالي، وأكواخ فان غوخ وملامح الملك في العملة الإسبانية، ولأنها أيضا مولعة بالسينما، ولكي يكون اشتغالها مكتملا مع بداياته، فقد تذكرت مدافع نافارين وساكو فانزيتي، واليد التي امتدت لساقيها في ظلام مقصورة سينما بابل، كانت الحاجة إلى الأفكار تدفعها للمزيد من التذكر، وما أن تنتهي من التذكر البصري حتى تنتقل إلى تذكر ما قرأت من الغراميات المُكَدرَة وما قرأته من مذكرة مشوه الحرب جيرميا سانت آمور.
أضيئت الاستراحة بعد عرض مقدمة فيلم الأسبوع المقبل، وما أن عم الضوءُ الصالة التفتت خلفها فوجدته يبتسم ويفرك لها يديه ويُلمح لها برغبته بتكرار خطيئته.
مضت الثلوج بالتساقط بكثافة وبكثافة تساقطت من مخيلتها الأجواءُ اللامفيدة، وعم الظلام الصالة من جديد، في حين فاحت رائحة الخمر من الرجل الذي كان قد مد يديه لساقيها خلال عرض مقدمة الأسبوع المقبل.
كانت الفكرة الأولية أن ترسم جنودا متحاربين بلا سيقان، بعد أن قُطعَت سيقانهم، وظلت أنصافا فوق الثلوج وتحتها، وأن تأتي بالنبيذ بدلا من الدم، خاصة أنها كتبت آخر رسالة لخطيبها الذي أحبَ فلوريا مانتاني بعد نصيحة من زميلة لها في السوربون خلال عرض عسكري في باريس للجنود المعاقين العائدين من الحرب.
لم يشفع الشاي لأفكارها المشتتة وسوحها في الماضي، رغم أنها وضعت اسطوانة فرانك سيناترا على الحاكي في الوقت نفسه الذي علقت فيه جوارب شال إزنافور على مقبض النافذة بعد أن اشتد البرد في باريس وبغداد وإسبانيا ورحلت الطيور عبر المحيطات في رحلة نادرة وراء النائحات ثكالى الحروب من فجر التاريخ ليومنا هذا، وبقي الضوء في عتمته وبقيت هي منذ عشرين عاما بين الشاي وعلبة السكائر، وما قرأته من مذكرة مشوه الحرب جيرميا سانت آمور.
٭ شاعر عراقي
قيس مجيد المولى