النجاح الفادح!
[wpcc-script type=”71c6310a2f88774c30d4cce0-text/javascript”]

بعض المبدعين في الفنون كلها، كالسينما والأدب وسواهما، يقدمون في عملهم الأول أفضل ما لديهم ثم يعجزون عن تجاوز أنفسهم، برأي الكثير من النقاد. تذكرت ذلك البارحة حين شاهدت فيلماً بوليسياً أمريكياً عن شرطي فاسد قام بتمثيل دوره غاري سينيس. ذلك الشرطي (في الفيلم) يختطف بمساعدة شركاء طفل الرجل الأكثر ثراء في الولايات المتحدة، ثم يقتل شركاءه (حين يكاد المخبر الخاص للثري يكتشف الحقيقة) متظاهراً بأنه أنقذ الطفل بمفرده كشرطي بارع.
الطفل المخطوف يكشف السر ببراءة
الشرطي الفاسد الكبير الذي دبر عملية الخطف ليحصل على المكافأة بمليون دولار رصدها والد الطفل (يلعب دوره ممثل كبير شهير هو مِل فيرير). الشرطي يقتل شركاءه في جريمة الخطف كي لا يبوحوا باسمه، وليبدو هو المنقذ للطفل المخطوف. وحين يذهب للحصول على الجائزة عن إنقاذ ابن الملياردير، ويكون والد الطفل على وشك أن يوقع له ويعطيه الشيك المليوني، يدخل الطفل المخطوف إلى الغرفة مصادفة ويشاهد الذي خطفه وينعقد لسانه ولا يقول كلمة، لكن وجهه يعبر عن الذعر وهو يتبول لا إرادياً من خوفه، وهنا يدرك والده أن الخاطف هو هذا الشرطي الكبير (الفاسد). وهكذا يماطله لأنه لا يريد معركة في البيت خوفاً على زوجته وابنه من إطلاق الرصاص المحتمل، ويزعم أنه سيرافق الخاطف إلى البنك لمنحه المكافأة.
التمثيل المدهش للشرطي الفاسد
وهكذا أبعد الملياردير ذلك الشرطي الفاسد عن بيته، وأمام البنك تدور معركة بينه وبين الشرطي المرتشي الذي يمثل دوره غاري سينيس (كما ذكرت).
وهكذا رسخت في ذهني صورة ذلك الممثل غاري سينيس كشرير! وبعدها قام الممثل المسكين في مسلسل آخر يلعب دور الشرطي المخلص لعمله، لكن صورته الشريرة كانت تطغى على ذاكرتي؛ فقد نجح في دور الشرطي الشرير نجاحاً هائلاً، حتى أنني لم أعد قادرة على الاقتناع بأنه يمثل دوراً آخر الآن كشرطي خير.. والخطأ في عدم قدرتي على التكيف مع دوره الجديد في المسلسل الجديد يدعى «أرواح شريرة» أعجز عن الاقتناع بأن غاري سينيس هو رئيس شرطة نزيه أخلاقي! نجاحه المدهش في الفيلم وتمثيله المقنع كفاسد جعلني أعجز عن مشاهدة وجهه دون أن أتذكر أنه رجل شرير (في فيلم خطف الطفل)!
ممثل لا يقنعني كشرير!
ما تقدم، ينطبق على ممثل هوليوودي آخر شهير هو بروس ويليس، وسبق له أن قام بتمثيل سلسلة أفلام بوليسية بعنوان (مت بقسوة)، وفيها لعب دور الشرطي الطيب الذي ينتصر دائماً للحق على الأشرار.
وكما أن غاري سينيس لم يعد يقنعني في دور الشرطي الطيب لنجاحه الفادح في دور الشرطي الشرير، لم يعد بروس ويليس بقنعني في سلسلة أفلام لعب فيها دور الشرير، ولم يعد مقنعاً لكثرة ما قام، بإتقان، بلعب دور (البطل) المدافع عن الحق، حتى أنني سررت بدوره في فيلم جديد حيث ينقذ ابنته ووطنه من كارثة سرقة مخزون الذهب الأمريكي على يد أشرار!..
لا يحق لي طبعاً أن لا أصدق ممثلاً أتقن دور الشرير (مثل غاري سينيس) وآخر أتقن دور الطيب (مثل بروس ويليس) ولكن ذلك يحدث!! فالممثل يرتدي الدور السينمائي له.. ولكن المتفرج هو المسؤول عن عدم اقتناعه بتحول ممثل ما من أدوار شريرة إلى دور الطيب أو العكس. فهو ممثل وليس رجلاً حقيقياً!
الأدب العربي والنجاح الفادح
يحدث في الأدب العربي ما يشبه ما تقدم؛ أي أن يصبح الأديب المبدع ضحية لنجاحه الكبير في كتابه الأول وعجزه عن تجاوزه، في نظر بعض النقاد أو القراء! إنه «النجاح الفادح»، وأذكر على سبيل المثال الروائي الكبير المبدع الطيب صالح وروايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي حاول تجاوزها في أعماله التالية، ولكن اسم تلك الرواية ما زال ظلها يخيم على أبداعه.. والأمثلة كثيرة في أدبنا العربي، حيث عجز المبدع عن تجاوز كتابه الأول إبداعياً أو يقال ذلك.
وثمة الكثير من النقاد الذين يجدون أن كتاب ليلى بعلبكي الأول «أنا أحيا» أفضل أعمالها، كما كتاب «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمن منيف، وكتاب «أيام معه» لكوليت خوري، وأمثلة أخرى لا تحصى من الأدب الغربي وأدبنا العربي، تماماً كما في السينما وفي حقول الإبداع كلها.
نظرة مختلفة دون كسل عقلي
أعتقد أن السبب الأول في دفع بعض الأعمال الأولى بصورة ذهنية للمؤلف هو الكسل الذاتي للمتلقي.. فهو يرسم صورة ذهنية (لا عقلانية) لإبداع ما، ويصير عاجزاً عن الانفتاح على أعمال أخرى له وتلقيها. في المقابل، قد يكون القارئ، كما الناقد، على حق. المبدع الطيب صالح لم يكن في وسعه أن يكرر روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، بل كان يشتهي تجاوزها إلى أعمال أخرى. وكوليت خوري أحبت تجاوز نفسها بعد روايتها الشهيرة «أيام معه»، كما في «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمن منيف، وليلى بعلبكي في كتابها الثاني «سفينة حنان إلى القمر» وكتبها الأخرى، حتى لأتساءل: تراها توقفت عن الكتابة من زمان لأن القارئ (عاقبها!) على نجاحها (الفادح) في كتابها الأول؟
وأعتقد أن المتفرج أو القارئ هو أحياناً المسؤول عن ذلك (الخلل) المؤدي إلى النجاح الفادح.. وحماسة لحبه الأدبي الأول يحول بينه أحياناً وبين نظرة عادلة إلى أعمال أخرى جديدة للمبدعين بعد موضوع إعجابه الأول، كما بعض النقاد.
يحق للممثل أدوار عديدة مختلفة
علينا أولاً ألا ننسى أن حياة الممثل وشخصيته لا علاقة لها بالممثل كإنسان وأدواره. ومن حقه أن يكون شريراً في أحد الأفلام أو المسلسلات، وبطلاً للحق في أخرى.. فهو لا يقطن أدواره.. إنه شخص آخر تماماً.
والأمر ذاته ينسحب على الأدباء، فنحن حين نحب العمل الأول لروائي نريد منه أن يتابع على منواله، لكن ذلك لا يتفق مع رغبة الأبداع لدى الأديب. والخلل ليس في كتابه الثاني بالضرورة، بل في نظرتنا إلى ذلك. ولعل علينا قراءة أعمال الطيب صالح بعد «موسم الهجرة إلى الشمال» بعين جديدة، وقراءة أعمال عبد الرحمن منيف بعد «الأشجار واغتيال مرزوق» بعين جديدة أيضاً. كما أعمال بقية المبدعين في الحقول كلها.
أحلم بناقد عربي يؤلف كتاباً عن أعمال الطيب صالح وعبد الرحمن منيف وليلى بعلبكي وكوليت خوري، وسواهم من الذين اشتهروا بعملهم الأول وشاع وذاع أنهم لم يقدروا على تجاوزه ـ فلعلهم قد فعلوا..
لماذا لا أحقق أمنياتي بنفسي وأكتب كتاباً كهذا؟ لأنني ببساطة كاتبة ولست ناقدة، وأحترم الناقد ومهنته ولا أتعدى عليها، والنقد ليس مهنتي!
