البورتريه الذاتي وحالاتُ ڤان غوخ المتطرفة

«البورتريه هي شيء قديم – قد يقول البعض- لكنها أيضاً شيء جديد تماماً». هذه العبارة للرسام الهولندي ڤينسنت ڤان غوخ، المكثر من البورتريهات، وهو الذي قال كذلك إن «البورتريه مسألة مشاعر»، وهو من ذلك – وإليه- مكثر في مشاعره، كثرة نراها في لوحاته، التي تموج فيها المشاعر كالغربان والرياح والسنابل (في لوحاته)، ونقرأها في رسائله […]

البورتريه الذاتي وحالاتُ ڤان غوخ المتطرفة

[wpcc-script type=”3e656ffee0fee485f2428be7-text/javascript”]

«البورتريه هي شيء قديم – قد يقول البعض- لكنها أيضاً شيء جديد تماماً». هذه العبارة للرسام الهولندي ڤينسنت ڤان غوخ، المكثر من البورتريهات، وهو الذي قال كذلك إن «البورتريه مسألة مشاعر»، وهو من ذلك – وإليه- مكثر في مشاعره، كثرة نراها في لوحاته، التي تموج فيها المشاعر كالغربان والرياح والسنابل (في لوحاته)، ونقرأها في رسائله إلى أخيه ثيو، ونعرف عنها من سيرته.
قد يكون ڤان غوخ أكثر الفنانين رسماً للبورتريه الذاتي، بوضعيات تكاد تكرر ذاتها، بملامح عامة لا تكاد تتفاوت بين لوحة وأخرى، لكن في فعل الرسم ذاته، أي التعبير عن المشاعر، يذهب إلى أطرافه في هذه اللوحة وتلك، فتتمايز. هي اللوحة التي نراها أخيراً، في شكلها النهائي، هي مشاعره تجاه ذاته في حينها وحسب. تماثل الوضعيات والملامح – لا تتجاوز التفاوتات هذا الرجل الأصهب الملتحي- يعطي مساحة أكبر للريشة والألوان، كي تبرز التطرفَ الذي يمكن أن تصله في نقل مشاعر هي في هذه اللوحة وتلك، تصل في قالب متماثل، الاختلاف الشكلي – بمعزل عن المشاعر- يكون في قبعة هنا وغليون هناك وضمادة على الأذن هنالك، ومسائل تقنية أخرى أشد أهمية.
ڤان غوخ هو رسام ذاته، فنان بورتريهات ذاتية، قبل أي شيء آخر، أي كتاب أو فيلم عن سيرته يكشف هشاشة مشاعره: تجاه أخيه وراعيه، تجاه زميله بول غوغان، تجاه ريف الجنوب فرنسي، وتجاه نفسه بحالاته وتفاوتاتها. حتى لوحاتٍ له كانت لحقل أو سماء أو غرفة أو مزهرية، تمايزت عن غيرها لامتلائها بالمشاعر اللحظية، مشاعر أتت بصورة أخيرة كالحلم، كاللاوعي، مشاعر يراها الكثيرون جنوناً. السماء عنده ليست كالسماء بشكلها الواقعي، بل بشكلها الحلمي، اللاواعي، التلقائي، أو الأدق: المشاعري. والمشاعري تعني هنا الذاتي، الشخصي، بل شديدة الذاتية والشخصية. وكل ذلك، إن ذهب إلى أطرافه، وهو كذلك في حالة ڤان غوخ، كل ذلك يأتي بالجنون، جنون الفنان، الجنون الڤان غوخي. فالجنون يلامس تطرفات المشاعر، وأعمال ڤان غوخ، بورتريهاته الذاتية تحديداً، هي المثال، أو الإثبات الأقدر لذلك.
قلت إن ڤان غوخ كان من بين أكثر الفنانين رسماً لذاته، وإن ذلك كان يعود إلى رؤيته لما هو البورتريه، وإلى تطرفات مشاعره وتخبطاتها، لكن كان للبائس ڤان غوخ سبب آخر، أكثر واقعية، هو فقره. لم يكن لڤان غوخ القدرة على الدفع لموديل يجلس/تجلس أمامه لرسمه أو رسمها، وقد بدأ برسم البورتريهات في باريس حيث عاش فقيراً، معتمداً على مساعدة أخيه، ثيو، الذي كان جامع لوحات، يبيع ويشتري منها. فكانت معظم بورتريهاته ذاتية، كان هو موضوعَه، وكان يرسمها أمام المرآة.

البورتريه الذاتي عند ڤان غوخ هو الذات كما يراها، هو كيف يرى نفسه، نفسيته، حالته، عينيه ولحيته. البورتريه الذاتي عنده هو رسم ما يراه هو مِن موضوعه وفيه، لا ما يُرى عليه الموضوع من قِبل آخرين، من قبل العالم الخالي من الجنون (والمشاعر).

سبب ثالث وأخير في إكثاره من رسم البورتريهات، ومرتبط بسابقيه، هو أن لوحاته هذه ما كان يرسمها ليبيعها، بل كانت تجارب، كان يختبر من خلالها تقنيات رسم جديدة أو غير مألوفة له (لذلك قال إنها «شيء جديد تماماً»)، كانت بدايات لمراحل ونقاط انعطاف (كان يرسمها مثلاً على الكانڤاس ذاته للوحات أخرى، إنما من خلفها)، وهو كذلك ما جعلها مختلفة عن بعضها، من حيث الشكل والأسلوب والمضمون والمقتنيات، ما كان يضيفه إلى نفسه الثابتة: عيناه الزرقاوان الحزينتان وشعره الأحمر وذقته الكثيفة، والحضور الطاغي للأخضر المُكئِب. وربما، لذلك التفاوت الكبير بين بورتريه وآخر رسمه لنفسه، لم يكن أي منها الصورة الأقرب لواقعه، بل رغم أننا نعرف له 35 بورتريهاً، اللوحة الأقرب لصورته الواقعية كانت لآخر، للرسام الأسترالي جون راسل، اللوحة التي قال ڤان غوخ لأخيه بأن يعتني بها جيداً، فهي قريبة جداً إليه.
صورة ڤان غوخ الواقعية في أذهاننا تأسست من بورتريهاته غير الواقعية (والمجدة)، وليس – أبداً- من الصورة الفوتوغرافية الوحيدة المتوفرة له (وهو في عمر 19) ولا من لوحة راسل، بل من لوحاته التي نقل من خلالها نظراته التجريبية المشاعرية إلى ذاته. كتب مرة: «يقول الناس – وأميل إلى تصديق ذلك – إن من الصعب أن يعرف المرء ذاته، لكن كذلك ليس من السهل أن يرسم المرء ذاته».
كأنه، في بورتريهاته الـ 35، كان يتجنب رسم ذاته، أو كان يرسم ذاته المتغيرة، المتباينة المتجددة الحية، ليقر أخيراً بصعوبة رسم «الذات»، الذات الدائمة الثابتة الخالدة والميتة.
البورتريه الذاتي عند ڤان غوخ هو الذات كما يراها، هو كيف يرى نفسه، نفسيته، حالته، عينيه ولحيته. البورتريه الذاتي عنده هو رسم ما يراه هو مِن موضوعه وفيه، لا ما يُرى عليه الموضوع من قِبل آخرين، من قبل العالم الخالي من الجنون (والمشاعر).
في «متحف ڤان غوخ»، في أمستردام، يُقام معرض «في الصورة» (21 فبراير/شباط – 30 أغسطس/آب)، يشمل 75 بورتريهاً لڤان غوخ وآخرين كإدوارد مونك. بعض بورتريهات الآخرين هذه كان ڤان غوخ موضوعها، رسموه كما يرونه، ومنها لفرانسيس بيكون وتولوز لوتريك وآخرين. إضافة إلى البورتريهات الذاتية الـ 17 لڤان غوخ والموجودة مسبقاً في المتحف، جمع المعرض بورتريهات ڤان غوخ من متاحف عدة في العالم، بادئاً بالانطباعية واصلاً إلى المعاصرة.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *