الجمع بين الأضداد في أعمال العراقي محمد صالح زكي

■ يتذكر أبناء الثلاثينيات من طلبة مدرسة التفيض الأهلية في بغداد، ذلك الضابط (محمد صالح زكي)، وهو يمتطي صهوة جواده الأشهب ويتجه مع مرافقه الجندي، إلى مدرستهم ليقضي ساعات من وقته الفائض في تدريسهم ـ بدون مقابل ـ أصول الرسم، وتدريبهم على فهم واستيعاب أوليات الرؤية الفنية، اعتماداً على الرسم من الطبيعة المباشرة، يصنفه شاكر […]

الجمع بين الأضداد في أعمال العراقي محمد صالح زكي

[wpcc-script type=”9e562ba83a24c26c7548baf4-text/javascript”]

■ يتذكر أبناء الثلاثينيات من طلبة مدرسة التفيض الأهلية في بغداد، ذلك الضابط (محمد صالح زكي)، وهو يمتطي صهوة جواده الأشهب ويتجه مع مرافقه الجندي، إلى مدرستهم ليقضي ساعات من وقته الفائض في تدريسهم ـ بدون مقابل ـ أصول الرسم، وتدريبهم على فهم واستيعاب أوليات الرؤية الفنية، اعتماداً على الرسم من الطبيعة المباشرة، يصنفه شاكر حسن آل سعيد رساما تقليديا على طريقة عبد القادر الرسام، ركّز اهتمامه على المناظر الطبيعية والجماد. يذكره ابن عمّه المعماري هشام المدفعي، أنه أحد الرسامين الذين درسوا في الأكاديمية العسكرية في إسطنبول، وفيها تعلم أصول الرسم والخط، وعمل في آمرية الحرس الملكي في عهد فيصل الأول، رسم العديد من الأعمال الزيتية على جدران بيت شقيقه أمين في محلة الفضل، وجدران بيت المدفعي في الكرادة .
محمد صالح زكي (1888- 1973)، يحمل في ذاته طاقة متحدية، كما يجمع في ذؤابة ريشته، ملكات فنان مقتدر، تحفزه دائما للخوض، وهو في مقتبل شبابه، ميدان المنافسة وقوة المماثلة والتفوق، ما دام يختزن تلك الطاقات، كانت أولى منازلاته للوحة زينت جدار أحد مقاهي رأس الجسر القديم، لأحد الرسامين الأجانب، وهي تمثل مركباً بأشرعة، وسمكة وغزالاً، وتصدى لها برسم أجمل وأكمل وأقرب إلى نفوس البغداديين في ذلك الزمان .
لم يتردد محمد صالح في الجمع بين السمكة والغزال، وهما يمثلان رمزين مختلفين لعالم يختلف كل منهما عن الآخر تماماً، ولكن خيال زكي جمع بين ضدين على صعيد واحد (ماء وبيداء)، من رؤى الأساطير الشعبية، أو كما يصفها الناقد التشكيلي شوكت الربيعي، أنها رؤية متفردة ضمن الواقع التسجيلي، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، معبرة عن تأملات الفنان زكي الفردية في تحقيق الطابع التناظري الذي يخلقه في الموضوع الطبيعي، وحسّه البدائي في الطبيعة.
على الأغلب لا يتقيد زكي بقواعد الرسم المعروفة، بل لا يمتثل لمناهج التشكيليين مادام يرسم الطبيعة، فيجعل منها كائناً نهائياً يجمع بين صفات عدة كائنات في آن واحد، إذ تغدو الشجرة مثلاً ككائن أسطوري، ذات سمات فطرية .
انتقل محمد صالح زكي إلى مراحل جديدة، حين بدأ يزاول رسم مشاهد الطبيعة العراقية، ويلتقط لمحات من مساقط أنوارها وظلالها، في ملونات مائية صغيرة ، كان البعض منها يرقى إلى مستوى أعمال الانطباعيين، كما كان يرسم تخطيطات قلمية سريعة لتلك المشاهد الخلوية، خلال رحلاته كضابط خيّال في الجيش العراقي، ثم يعتمدها من بعد، أساساً لإنجاز لوحاته الزيتية، وكان يتمتع بقدرة استثنائية على تذكــــر أدق التفاصـــيل لكل منظر شاهده، أو حادثة مرّت به في حياته، لتأليــــف العناصــر التسجــيلية المكملة للمشهد الذي اشتهاه فرسمه.
أتاح معرضه الشخصي الأول عام 1956، فرصة الاطلاع على تجربته الفنية، كأحد رواد المدرسة الكلاسيكية التي تعنى عادة بإسلوب النقل في رسم الأشخاص، وكان ينحو متاثراً بالاتجاهات الجديدة في الرسم، في أعمال أخرى تصور الطبيعة، كما في لوحاته (الصيادون، غروب على الفرات الجنوبي، طريق إلى بلدروز، أمام مخفر بغدادي)، فهو على شيء من القصدية في التعبير عن الوعي الإنساني في الفن، ذلك أن الطبيعة لديه تظل عنصراً حافلاً بقواها المؤثرة في الحياة الإنسانية، لأنه لا يراها إلا وهي في حالة حضور واعٍ .
إن نقل المشهد الطبيعي إلى اللوحة، هو بدون شك، عمل مثير، غير أنه في الوقت ذاته، لا يكفي لتحقيق عمل فني إبداعي ممزوج بحرارة الإنسان وقلقه، ولعل ذلك يعود إلى أن رؤية الفنان تصبح غير قادرة على البوح الواعي، إذا ما اتصلت بالداخل، ومع ان النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل أبعاد أعمال محمد صالح زكي، كما أنها لا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشع منها، إلا انها تستطيع أن تؤكد حقيقة واحدة وهي، أن الفنان لم يبتعد عن منظوره الروحي، ولا نوازعه الإنسانية الصافية. وهناك حقيقة لامعة في تاريخ الفنان، وهي قدرته الفائقة في رسم الخيول التي أخذت حيزاً في اهتماماته، وشغلت بعد الطبيعة الجانب الأكبر من فنه، ولعل ذلك الشغف، قد انتقل، تأثراً وتأثيراً، إلى ولده الفنان ( زيد)، الذي اشتهر بأروع الصور للخيول رؤية وجمالا وخيالاً، ويذكر أن زيد رافق مسيرة الفنان فائق حسن في جماعته الأولى (البدائيين) التي تحولت في ما بعد إلى جماعة (الرواد)، فضلا ً عن تأثيره في الفنان كاظم حيدر، الذي يعده بمقام معلمه الأول، كما جاء في إهداء كتابه (التخطيط والألوان)، الصادر في بغداد ثمانينيات القرن الماضي .ما ذهب مع الزمن من ذكريات هذا الفنان، هو الجانب الأكبر من تاريخ حياته، ولعلنا حين نستذكر لمحات منها، فإنما لنضع أمام الدارسين تلك الحقيقة التي تتعلق بمنجز الرواد من أهل الفن.
«تمنيت يا صالح زكي أن أصنع من الصدف الذهبي قلادة لعنق غزالك، ولقواربك المبحرات فوانيس تنير عتمة الليل».

٭ كاتب عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *