«ذاكرة المشهد» للتشكيلي المصري جورج فكري: أيقونات تمجد الروح الشعبي

القاهرة ـ «القدس العربي»: في معرضه الأخير، الذي أقيم في غاليري الزمالك للفن في القاهرة، والمعنون بـ«ذاكرة المشهد» يواصل الفنان جورج فكري تأصيل فكرة تمجيد الأصوات الواهنة ـ رغم الصخب الذي تعيشه وتبديه ـ بعيداً عن الدعاية المألوفة أو استغلال هذه الفئات بمنحة التعبير عنها وعن عوالمها، ليكشف ذلك في النـــهاية عن مدى استعلاء وزيف […]

«ذاكرة المشهد» للتشكيلي المصري جورج فكري: أيقونات تمجد الروح الشعبي

[wpcc-script type=”6277a71afea97cce2eecd2c5-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: في معرضه الأخير، الذي أقيم في غاليري الزمالك للفن في القاهرة، والمعنون بـ«ذاكرة المشهد» يواصل الفنان جورج فكري تأصيل فكرة تمجيد الأصوات الواهنة ـ رغم الصخب الذي تعيشه وتبديه ـ بعيداً عن الدعاية المألوفة أو استغلال هذه الفئات بمنحة التعبير عنها وعن عوالمها، ليكشف ذلك في النـــهاية عن مدى استعلاء وزيف هذا الفــــنان أو ذاك، الذي يستند إلى موروثات وعادات الشعب المصـــري، مصوّراً نفسه باحثاً ومدافعـــاً عن هؤلاء، وأنه تكرّم واستحضرهم عبر عمله الفني، وهو في الحقيقة لا يعرف عنهم شئياً، ولا يريد حتى أن يعرف.

تجربة جورج فكري تبتعد عن حالة التسوّل الإبداعي هذه، وتمجد الروح الشعبية المصرية، كاشفة عن تجربته الطويلة والممتدة عبر ثقافات وأديان مختلفة، نجح الشعب في صياغتها أفعالا واحتفالات وطقوسا عاشها وأنتجها، بعيداً عن المؤسسات الرسمية. هذا التاريخ الطويل لا يطاله لحظة انقطاع واحدة، بل تحولات متواترة تحض على القداسة وتوحي بها، بعيداً عن نصوص وكهنة، وطقوس فارغة لا ترضي إلا السلطة وحدها. هنا يصبح الإنسان هو محور هذه المظاهر والممارسات، نتاج روحه ووعيه، حالة مقيمة من حالات التدين واليقين الشعبي.
جسدت أعمال فكري هذه الحالة وتبايناتها، سواء على مستوى الموضوع أو التقنية، التي تقترب إلى حدٍ كبير وطريقة رسوم الجداريات التي يتم اكتشافها تباعاً، كذلك الأيقونات التي تحمل بدورها صوراً وملامح لقديسين، يحتل هنا أفراد الشعب مكانهم، وكأنهم الأجدر بهذه الصفة، لأنهم حتى الآن يستطيعون مواصلة العيش، والقدرة على إنتاج صيغة حياتية تخصّهم وحدهم.

الموضوعات

يتخذ جورج فكري من الثيمة الشعبية ـ العادات والطقوس ـ سبيلاً لتجسيد أعماله الفنية، ومنها احتفالات الزواج والميلاد والأسبوع، سواء في قرى شمال مصر أو جنوبها، إضافة إلى ذلك تمتد حكايات وسيَر الملاحم الشعبية، كعنترة وأبو زيد الهلالي، وهو أمر يتماس مع الذاكرة الجمعية للمصريين، ومنه ينتقل إلى مظاهر الاحتفالات الدينية والشعبية، كالموالد واحتفالات زيارة الأضرحة وأولياء الله الصالحين. وحتى يختلق الفنان فكرة التواصل والتواتر لهذه الطقوس، يستند في لوحات أخرى إلى مشاهد من ذاكرة قريبة إلى حدٍ ما، كالأفراح في الأحياء الشعبية قديماً، واستحضار فرقة (حسب الله) الشهيرة، كذلك حلقات الرقص الشعبي والحاوي وما شابه من مظاهر كانت تعيشها المدن والقرى المصرية منذ منتصف القرن الفائت. ومن هذه الثيمات يصيغ فكري حكاياته ـ حيث لا يمكن إغفال الحِس السردي في هذه اللوحات ـ في شكل من أشكال الاحتفاء الأسطوري بهذه المخلوقات وحيواتها. وما بين التمجيد والتأسي تكمن المفارقة.

الأسلوب والتقنية

وحتى يتم تجسيد هذه الرؤية الفنية يتوسل الفنان بالأسلوب التعبيري، وتمثيل الحالة الأسطورية للشخوص، وما تفعله خلال الطقس. فنلاحظ أن اللوحات تضم مجموعات ـ الوعي الجمعي للحكاية ـ فتنتفي فكرة الفرد، وما الهيمنة للحدث ذاته مثلاً، ولكن الأهمية في هذه المشاركة، التي تُعلي من قيمة الحدث، فلا بطولة إلا للمجموعة ككل. ثم التصميم الدائري الذي يُلازم اللوحات، وهو ما يوحي بالحركة الدائمة والاستمرار الزمني، وحتى يتم التأكيد على هذه الفكرة لا يكتفي الفنان بالتكوين، بل في الغالب يقوم بمحو تفاصيل الوجوه، وكأن حركة شخوصها أسرع من أن يُقبض عليها. أما اللون فيستخدم الفنان دوماً ألواناً حارة، كالأحمر ومشتقاته، ولكن ليست في درجاتها النقية، بل في صورة باهتة توحي بالقِدم ومرور الزمن على هذه التصاوير، وهو ما يؤكد إصرار الفنان على انتماء هذه المشاهد إلى ذاكرة قديمة، كرسم على جدار معبد فرعوني قديم، أو أيقونة تنتمي إلى التراث القبطي، تم اكتشافها حديثاً، أو تمجيد الخيال الشعبي الذي يخلق أساطير أبطاله غير الرسميين، كالفارس الذي يرّوض أسداً شهيراً، دائماً ما يرسمه المصريون فوق أذرعهم.
من ناحية أخــــرى يســـتخدم فكري وسائط مختلفة في اللوحة، كألوان الأكريليك، العجائن الورقية، والورق الملون، إضافة إلى تقنية الكولاج في بعض اللوحات، كأن يستحضر عناصر مصوّرة، كبرّاد الشـــاي، أو الفواكه والخضراوات، كما في لوحة تمثل البائعات في سوق الخضار.

صخب حزين

وما بين هذه التجمعات البشرية وصخبها، حتى أن أجسادها المائلة، التي تكاد تسقط من فرط دورانها في فلك طقوسها المقدسة، ورغم الاحتماء ببعضها بعضا، واختلاس لحظات من الفرح أو التحقق، إلا أن هذه الوجوه المنتشية تخفي حزناً كبيراً، تجاوزه الأمل، رغم كل هذه المظاهر. حزن القديسين هذا يتواتر في جميع اللوحات، بل بعض المعارض السابقة لجورج فكري، وهو ما يوضح أن حالة احتفاء الفنان بهؤلاء يتخذ شكلاً طقسياً بالأساس، يُمجد هؤلاء المنسيين، فيخرج بهم من متحف الذاكرة إلى النور.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *