تخيلات الفطرة في نماذج النحات العراقي منعم فرات

حقق الفنان منعم فرات على صعيد الفن الفطري؛ المعادلة الصعبة في العطاء المتضمن مجموعة رؤى كشفت عن نوع الدهشة التي واجهته، باعتباره فنانا ووجودا استثنائيا، ذلك بتأثيرات ضاغط الجينات المعرفية التي هي مجموعة الرؤى، بغض النظر عن التعليم والاكتساب المعرفي. فقد دخل حيّز الأسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكوّنه البيئي والضاغط الاجتماعي والنفسي. فهو خضع […]

تخيلات الفطرة في نماذج النحات العراقي منعم فرات

[wpcc-script type=”1634a6943a72c21682478d4a-text/javascript”]

حقق الفنان منعم فرات على صعيد الفن الفطري؛ المعادلة الصعبة في العطاء المتضمن مجموعة رؤى كشفت عن نوع الدهشة التي واجهته، باعتباره فنانا ووجودا استثنائيا، ذلك بتأثيرات ضاغط الجينات المعرفية التي هي مجموعة الرؤى، بغض النظر عن التعليم والاكتساب المعرفي. فقد دخل حيّز الأسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكوّنه البيئي والضاغط الاجتماعي والنفسي. فهو خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي أن الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي أنتجت مقاربات أسطورية، عبر استجابتها للضغط الذي يحيطه، سواء في الاستجابة أو الاختلاف مع محيطه ومكوّنه العاكس للمعنى الذاتي والعام. فالرؤى الفطرية لديه تضمر معاني كثيرة، شأنه شأن مجموعة الفنانين الفطريين الذين أعقبوه. لكنه يختلف عنهم في طبيعة تكوينه السيكولوجي وحساسيته الذاتية، ما دفعه إلى أقصى حالات الترحيل في تحقيقاته الفنية. لقد أضفى على أشكاله النحتية نوعا من الدهشة. فهو كفنان كرّس إمكانياته النحتية، إلى ما كشفت له دهشته، لمجمل ما كان يراه بصريا، كمادة ومَشاهِد خام، وبما خلقت لديه حراكا معرفيا منتجا، أسقطها بالدهشة ذاتها، أو تفوّق عليها، وهو يمارس عكس ما كان يراه على صور وأشكال ذات خصائص فنية ذاتية أيضا. وهو بذلك واجه الواقع بما حققه من رؤى عكست رؤيته لما حوله. فعنده أن الفن؛ هو مجموعة الرؤى المتحققة، والعابرة لصورة المرئي كالبنية المضمرة في العمق الذاتي (اللاوعي)، والبنية الظاهرة على سطح الواقع.

المؤثرات

خضع الفنان لتأثير المتغيرات في الأزمنة، باعتبارها مؤثرات ذات قيمة معنوية، خالقة لموقف فكري. فالتحوّل في الشيء، يعني خلق البديل الذي يشكّل رمزه، لأن الأزمنة بتحوّلاتها تخلق صوّرا متعددة ومختلفة في الطبيعة البنيوية، ما يدفع الإنسان إلى خلق دفاعاته. وكان الفن أول تلك الدفاعات، أي فن النحت والتعامل مع الطين والحجر، كوسيلة تعبير قبل ظهور الكتابة والتدوين. إن إشكالية التحوّل تنتجها طبيعة التحوّلات الجارية في الواقع. وهي بهذا تتبع طبيعة الإنسان في تشكلاته الفطرية والمعرفية المكتسبة. غير أن مبررات العوّدة إلى طبيعة الأشكال تلك في التعبير حاضرا، له دوافعه المعبرة عن الدفاعات الذاتية، وبهذا تكون ظاهرة العودة إلى ما أنتجه الإنسان في الماضي، يعني الخضوع إلى الجينات من جهة، وعكس قدرة الإيمان في كوّن هذه المنتجات النحتية تُعبر عن وجهة النظر. ونرى أن هذا التخريج أكثر واقعية ثقافية وفكرية، فهي محاولة تتضمن التشبيه للأشياء برموز قديمة. وهذا ما حصل في منحوتات فرات المزدوّجة التكوين.
يعتمد الإنسان الفنان في هذا إلى نوع من التشفير والملغز من أجل تحقيق مبدأ النتائج المترتبة جرّاء الموّقف الفني، كذلك تحقيق وسيلته في التعبير عن أفكاره ورؤيته لواقع سائر نحو الخطأ. وفي هذا يكون التشكل للمنحوتة سبيلا معبّرا عن الرؤى. ونعني به المنحوتات ذات الخاصية الفردية، والأخرى الجمعية. فلكل من هذين موّقف ورؤية ووجهة نظر. وهذا ما نراه في منحوتات منعم فرات، فهي جمعية التشكّل على العكس من المنحوتات القديمة، ذات الصفة الفردية كنماذج الآلهة مثلا. فمنعم يعمل على فرز حالات الوئام أو التقاطع بين نماذجه، لكنها في آخر المطاف توّحد موقفها الذي يُشير إليه اقترابها من بعض، حد الاندماج، حيث تبدو نماذجه النحتية معبّرة عن موّقف مدروس وليس عفويا. بمعنى أنه يشكل موّقفا مما يجري. وقد أكدت سيرته على ما واجهه من صعوبات خصت وجوده كالسجن، والمنع من عرض منحوتاته. كما كان الموّقف إزاء نحته تمثال عبد المحسن السعدون، حيث جرى سجنه ومصادرة التمثال. وهذا دليل على أن الفنان يخضع لمؤثرات واقعية، لكنه في اختيار الأسلوب يخضع لرؤى قديمة، يعشقها حد الفناء.

تماما كما كان الإنسان القديم ينجز مجسماته ذات العيون الواسعة والموحية بالهيبة والجلال، كما في منحوتات الآلهة. فصمتها يعني كلامها. وهذا يكمن في اللغة التي عليها النسق النحتي كوّنه يحوز حركة كامنة في كتلته وتواؤمه مع ما يصاحبه من نموذج.

إن الفن القديم المتمثل في ما تركه الإنسان من منحوتات تمثل نوعا من الدفاعات، سواء في ما يخص الجسد، أو ما هو معني بالمعتقد، كتماثيل الآلهة. بينما نجد فرات معنيا بكشف البنى الذاتية لموجودات الزمن، الذي يعيشه متحمسا تحت ضغط دوافعه الحسية، بتشكلات منظومات الواقع الرازح تحت نير الاحتلال وضياع الهوية. إنه يمارس فن النحت باعتباره وسيلة تعبير عن خلجاته، لاسيّما عكس حسه الوطني إزاء ما يعيش ويرى. لذا فعودته لفن الإنسان القديم نوع من التشبه بقوة هذا الفن، وقدرته على تقديم وجهة النظر، لكنه استطاع أن يبلور طبيعة منحوتاته وفق سياق معاصر، مع إبقاء تصوّراته النقدية للواقع، منطلقا من مهيمنات ذاتية مستقلة، حيث بلورت مجسماته ظواهر الوجود عبر الاندماج بين نماذجه، واعتبار الكتلة التي تمثل الجسد المزدوج (بشريا حيوانيا) وسيلة لتوصيل أفكاره، فهو إنسان معترض، وفنان اختار وسيلته في التعبير وفق وعي جيني ومكتسب، وضعته موضع الناقد على مستوى جدلية خاصة لا تحابي محيطه وعناصره، وإنما تطرح رؤاها وفق ما يستلزم الأمر التعبير عنه. فمجسماته حاّملة لوجهة النظر وصلابة الموّقف. كالصمت الذي يبدو على منحوتاته، كذلك الذهول الذي هو أسلوب يخفي كلاما كثيرا، فهو مقتصد في المفردة، لكنه عميق في دلالتها، فالصمت هنا يوحي بالكلام. بمعنى يوحي للمتلقي البصري حالة البحث عما هو كامن وراء لغة الصمت.
تماما كما كان الإنسان القديم ينجز مجسماته ذات العيون الواسعة والموحية بالهيبة والجلال، كما في منحوتات الآلهة. فصمتها يعني كلامها. وهذا يكمن في اللغة التي عليها النسق النحتي كوّنه يحوز حركة كامنة في كتلته وتواؤمه مع ما يصاحبه من نموذج. فالأجساد في منحوتاته تظهر على شكل اتحاد قوتين أو أكثر، ما يضع النموذج موضع حراك الكلام والتعبير عما هو خارج الشكل من معاني. إن مجمل ما يخص منحوتاته، هو الاحتجاج وبلورة الموّقف من الواقع الذي يعيشه. وهذا ما سبّب له الأذى من السلطة، فقد اعتقل وسئل وصودرت مجسماته. فمنحوتاته ذات محمولات احتجاجية على السلطة السياسية، باعتبارها خطابات تنحو إلى نقد الواقع وتعريته، وعكس ما يتعرض له الإنسان من هتك لوجوده، ومصادرة لحريته. هذه الدوافع وضعته موّضع المساءلة، فحوكم جرّاءها ومنع من عرض منحوتاته لأكثر من مرة، فهو في هذا فنان معارض، وفق ما أملاه عليه موقفه الفكري المزيج من الوعي المباشر والوعي المكتسب، أي الوعي الطبقي. لقد كان واعيا وهو يتصدى إلى مثل هذه السلطة التي تحاول تعويق مساره الفني الوطني. وكان وعيه لهذا واضحا في قوله: «سيأني اليوم الذي يحاسبون فيه هؤلاء العملاء العبيد خدّام الاستعمار، سيأتي الرجال الذين يشجعون هذا النحت ويعرفون قدره. سيأتي اليوم الذي أكون فيه الفنان الوحيد، سأكون لا منعم، بل منعم فرات»، كما ذكرت ابنته أثر مطاردته ومنعه من الوقوف في الشارع لعرض منحوتاته، ومنعه من الوصول إلى المتحف، وفعلا استبشر خيرا بعد ثورة يوليو/تموز 1958 وذكر ما وعد به، وهو حلمه وحلم غيره في التغيير.

٭ كاتب عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *