جان ماري أبْرِيُو… تماثيل تفيضُ بمحكيّاتها

جان ماري أبْرِيُو نحّات فرنسي من مواليد العام 1986، يُعدُّ من أبرز الفنانين الشباب حضورًا في المشهد الفني الغربيّ، لا يتعامل مع المواد الطبيعيّة مثل الألمنيوم والسيراميك والزجاج والبرونز والطين والخشب بوصفها مواد ميّتة قابلة لكلّ تشكيلٍ تقليديّ وإنما هو يحاورها بجرأة فنيّة، ويستكشف فيها أرواحَها، ويسمع مراغبَها في كيفيات تكوُّنها الفنيّ، فإذا هي تتحوّل […]

جان ماري أبْرِيُو… تماثيل تفيضُ بمحكيّاتها

[wpcc-script type=”625cf8746b460e36bcdd2d76-text/javascript”]

جان ماري أبْرِيُو نحّات فرنسي من مواليد العام 1986، يُعدُّ من أبرز الفنانين الشباب حضورًا في المشهد الفني الغربيّ، لا يتعامل مع المواد الطبيعيّة مثل الألمنيوم والسيراميك والزجاج والبرونز والطين والخشب بوصفها مواد ميّتة قابلة لكلّ تشكيلٍ تقليديّ وإنما هو يحاورها بجرأة فنيّة، ويستكشف فيها أرواحَها، ويسمع مراغبَها في كيفيات تكوُّنها الفنيّ، فإذا هي تتحوّل بين يديه إلى تماثيل تصهلُ وتفيضُ بمحكيّاتها البصريّة البليغة.

روحيّةُ المادّة

لا تُخفي منحوتات جان ماري أبْرِيُو تأثّرَه بالفنان السويسريّ ألبرتو جياكوميتي، غير أنّ هذا التأثّرَ تأثُّرٌ مُضيفٌ؛ ذلك أنه إذا كانت منحوتات جياكوميتي خاضعةً لطبيعة مادّتها الأوّلية فلا تظهر فيها حركتُها إلاّ مُقيَّدةً بتكراريّةٍ جليّةٍ باهتةِ المشاعِرِ فإنّ في أعمال جان ماري أبْرِيُو مزيجًا شعوريًّا بين خيال الفنان وإيحاءات المادّة، وهو ما يعزّز في المنحوتةِ حركةً تأويليةً متناغمة مع حركةِ الحياة اليومية، وهذا ما يُلخِّصه النحّات دانيال ديوار، أستاذُه بمدرسة الفنون الجميلة بمدينة «رِينْ» الفرنسية في قوله له: «أنت تسمح لنفسك بما لا نجرؤ نحن عليه، أي الشُّعور بروحِ المادّةِ». ولا نخال هذا الشعور إلاّ نتيجة استفادة جان ماري أبْرِيُو من الكون الأسطوريّ العالمي سواء منه الأساطير الشرقية أو الإفريقية، ناهيك عن تغذية مشاربه الفنية بأدب الخيال العلمي والسينما والكوميديا والفولكلور الشعبي ومشاهد الحياة اليومية. وإنّ في تنوّع مصادره التخييلية ما كثّف من إيحاءات تماثيله، وجعلها متناغمة جميعا في مشهديّة حيّة أبطالها عناصرُ طبيعيةٌ كالخيولِ والجِمالِ والناسِ والتماسيحِ والأشجارِ والبجع وفرس البحر والذُّرة وعبّاد الشمس والجُلود وتركيباتٍ أخرى عديدةٌ، وتعضد فيها كيمياءُ مادّة تلك العناصر لُطفَ تشكُّلِها الفنيّ، وذلك من جهة قُدرة كلّ منحوتة منها على الإيهام بمسرحية دينامية للضوء والعتمة بفضل تشابك سطحها الفضيّ الحاملِ لآثار يدِ الفنّان مع حوافِّها المُسَنَّنة.

نحتُ القِصّةِ

لا شكّ في أنّ التضادَّ القائمَ بين الواقعيّ في منحوتات جان ماري أبْرِيُو والخياليّ، وبين الإنباء بالمستقبل والإخبار عن الماضي، وبين عنَتِ الطفولةِ وهدوء النّضجِ، وبين الفنّ القديم والإلهام العصريّ، هو ما مثّل بالنسبة إليه تقنيةً جديدةً كانت سبيلَه إلى حفز المادّة لأنْ تُعلِن في الآن ذاته عن نوباتِ سكونها وانفعالِها، وعن بهجتها وقلقها، وعمّا يعتمل فيها من تصادُمٍ سرياليٍّ بين مألوف حالاتها وجديدِها. وهو أمرٌ نقدِّرُ أنّ بإمكانه أن يخلق شعورًا في المُشاهِد بغرابةٍ ممزوجةٍ بهلوسةٍ تُشبه الحلْمَ. إنّ منحوتات جان ماري أبْرِيُو مُعَتَّمة، غير ملساء، ورمادية مثل الألمونيوم، بل هي جافّة ومُشَوَّكة ومُهيبة، ولها جلالة صوفيّة. وهذا وحده ما يخلق الرغبة في المُشاهِدِ لإعادة النظر في كلّ منحوتة، قربًا منها حينا وابتعادًا عنها حينا آخر، لأنّها تخفي من فتنتِها وأسرارِها أكثر مما تُبدي.
وفي هذا السياق يقول النحّات جان ماري أبْرِيُو إنّ ما يعنيه في فنّه ليس تصوّراتنا القديمة عن الموادّ المستعملَة فيه وتاريخها العلميّ وإنّما هو ما يخلقه لها من مستقبل جديد وعلائق طارئة مع بعضها بعضا ضمن منحوتاته. إنّ جهدَه منصبٌّ على خلق أسلوبٍ خاصٍّ به وتوقيعٍ يُميّزه عن غيره من الفنانين. ويشرح ذلك بقوله: «إنّ فيزياءَ الموادّ المتعددة وكيمياءَها هما اللتان تُلهمانني الأفكار وتفتحان عندي أبواب كبيرة لتخيّل أحوالِ كلّ منحوتةٍ، أيْ لمنحها فرصةَ تقرير كيانِها الفنيّ». ويُضيف هذا النحّات قولَه إنّ ما يعجبه في الموادّ هو قدرتها على الحكيِ، إنّها مثل قصيدة ويليام بليك. ذلك أنّ كلّ مادّة إنما هي قصيدة ذات عوالم ممكنة، إنّ دور الفنّان أن يخلق للناس عوالم موازية ويُرغِّبهم في اكتشافها واستماع حكاياتها، لقد خلق الشِّعرُ ملايين الأكوان منذ أن أصبح الإنسان شاعراً. وبعيدًا عن التمثّل العلمي لمفردات الطبيعة، فإنّ حُسنَ استماعِ النحّات إلى هسهسة الموادِّ، واعتباره إيّاها مفاتيحَ لفكّ مستغلقات العالَم، وأبوابًا تؤدّي إلى أرضٍ من التصوّرات جديدةٍ، هو وحده ما سيجعل إزميلَه يسبق فكرته، وقصةَ المنحوتة تسبق شكلها.

٭ كاتب تونسي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *