التجريدي والتشخيصي في منجز عبد الكبير ربيع

إيقاع فنان زاهد: عرف المغرب حركية تشكيلية وفنية سريعة الوتيرة، ساهم فيها فنانون مدفوعون بالرغبة الملحة لملاحقة الركب العالمي، وذلك منذ منعطف القرن الماضي. وقد شكّلت فيها، تجارب بعينها منعرجات جد مهمة نحو الرقي بالفن البصري، داخل هذه الجغرافيا القصية. عبد الكبير ربيع واحد من هؤلاء الفنانين الذي سكنهم سؤال التجديد، في محاولة للخروج بالفن […]

التجريدي والتشخيصي في منجز عبد الكبير ربيع

[wpcc-script type=”6c2c778483f450416d9240f4-text/javascript”]

إيقاع فنان زاهد:

عرف المغرب حركية تشكيلية وفنية سريعة الوتيرة، ساهم فيها فنانون مدفوعون بالرغبة الملحة لملاحقة الركب العالمي، وذلك منذ منعطف القرن الماضي. وقد شكّلت فيها، تجارب بعينها منعرجات جد مهمة نحو الرقي بالفن البصري، داخل هذه الجغرافيا القصية.
عبد الكبير ربيع واحد من هؤلاء الفنانين الذي سكنهم سؤال التجديد، في محاولة للخروج بالفن المغربي من نفق الهوية الثابتة والركود، عند اشتغال متكرر ونمطي. لهذا نجده قد اختار أن يزاوج في اشتغاله الفني بين نزعتين تظهران للبعض على أنهما متناقضتان: التجريدية والتشخيصية. إلا أنه عبر عمله ضمن البراديغمين، استطاع أن يبرز إمكانية التنقل والانتقال بينهما، بكل ما تستدعيه المهارة، وبكل ما يتطلبه موضوع الاشتغال، موحدا بينهما عبر اجتباء الأسود والأبيض روحاً للاشتغال على جل أعماله.
اصطفى واختار إذن، عبد الكبير ربيع لنفسه العمل في عزلة وصمت، بعيدا كل البعد عن ضجيج اللقاءات التي لا تضيف للنقاش التشكيلي الفعال شيئا… منعزلا في محرابه كمتصوف زاهد، يعمل على إنجاز لوحاته، بمختلف أحجامها، بلا مهادنة، وعبر حركية لا تستكين، وذلك من بداياته الأولى أمام القماش، حيث بدأ تشخيصيا ـ ولا يزال- ومن ثم سيتحرك صوب الاشتغال التجريدي عند منعطف سبعينيات القرن الماضي، هذا العقد الذي شكل التفافا مهما نحو تفعيل الحداثة الفنية في المغرب، وربيع واحد من الفنانين الذين ساهموا في ذلك التقعيد العملي لها.

الإيقاع والرقيم:

يعتني ربيع جيدا بسند منجزه، إذ يدعمه بطبقات متتالية ومتراصة من الطلاء الذي الغاية منه تنعيم وتلميع السند. من ثمة يطلق العنان لحركية لينة يكون جسده ككل فاعلا فيها، لإبراز خطوط سوداء قوية ومفصلية تغزو الأبيض البدئي. كأنها علامة فارقة وذات حساسية مفرطة، من أسود شفاف وغامق، مَرْقُومٍ ومُخَطَّطٌ دفعة واحدة. ليجعل الأبيض والأسود يتحدان عبر تصادم لوني، يولّد صراعا يوحي بتداخل بين الضوء والظل. وقد يتدخل ربيع بلطخة أو لمسة ملونة (صفرا، زرقاء، حمراء…) تكسر ذلك الصراع لتولّد عمقا وبعدا ثالثا في العمل التجريدي المسطح.
يعمل ربيع على منجزه ككل بإيقاع دقيق، كأني به موسيقار يوضب النوتات، ويركب النغمات في ذهنه، قبل أن يباشر ورقة التدوين، وهكذا يفعل عبد الكبير ربيع المدفوع بطاقة إبداعية وخلاقة، إذ يحسب بدقة زمن وكيفية الاشتغال على اللوحة، قبل مباشرة قماشتها بطلائه الأبيض اللامع، وقبل أن يوضب عليها علاماته التي تتحول إلى رقيم متعدد. كل ذلك ناتج عن روح التأمل «المصاب» بها منذ صغره، وهو المترعرع في أعالي الجبال في مدينة بولمان ووسط غاباتها الصامتة وطبيعتها الخلابة.

التأسيس والتمهيد:

استطاع عبد الكبير ربيع منذ ثمانينيات القرن الماضي بالتحديد، أن يبصم على حضور فعال مهم في الساحة التشكيلية المغربية، واضعا اسمه في خانة المؤسسين للحداثة الفنية والممهدين للمعاصرة، إذ ستؤثر تجربته على تجارب الفنانين الذين جاؤوا من بعده، خاصة في التسعينيات… هذا الجيل المدفوع بالرغبة في اختراق الحداثة، والمسكون بإعادة تأويل الماضي، وجعل «الهوية» متحركة ومتجددة وغير ثابتة في قعر الماضي الراكد، خاصة بعدما ولج سنة 1988 جامعة الحسن الثاني، في إطار برنامج بيداغوجي تجريبي جديد مفتوح للدراسات الفنية، إذ كانت فرصة حاسمة أدت إلى خلق إجازة تطبيقية في الفن، تهدف إلى منح خصوصية لهذا اللقب الأكاديمي ذي قيمة أكاديمية محددة. وقد ساهم بنشاط في تطوير نهج نظري يدمج الخبرة العملية مع الفكر الجمالي. مقاربة متفردة قام بتطويرها من خلال القيام بعلاقات تبادلية وإبداعية، مع صديقه موليم العروسي الناقد الفني وأستاذ الجماليات، بتواطؤ تام مع السؤال الفني في علاقته بالفكر الأكاديمي. وكجزء من هذا الزخم الطموح، شارك في الإشراف، من 1988 إلى 1992، على إصلاح تدريس الفنون الجميلة في الدار البيضاء، وساهم بالكامل في تطوير منهج نظري يتكيف مع هذه الممارسة الفنية. لدعم هذه العملية التربوية وتعزيز خبرته في هذا الاتجاه. هذه الأنشطة التعليمية المكثفة، التي شارك فيها بحماس، شحذت إحساسه بالبحث والتجريب، ما فتح الطريق لتعميق انشغالاته الفنية.

الاشتغال بيدين:

نشاطه الدؤوب بين محرابه وفضاء التدريس، جعله يكوّن تجربة فنية تزاوج بين التنظير والتطبيق، ما صقل رؤيته للفن، لهذا لم يختر ربيع أن يتوقف عند سجيل فني محدد، إلا أنه فضّل العمل على الأبيض والأسود، بشكل يقارب المطلق، متنقلا بين السجيليْن، والأمر عائد للروح الصوفية الزاهدة المفعم بها، إذ قادته هذه الصوفية إلى درجة الزهد في الألوان والاقتصار على اللونين الأبيض والأسود، وذلك لكل ما يحملانه من تعدد تأويل وكثرة قراءة، حيث لا تكاد حضارة وثقافة تخلو منهما رمزاً، بكل ما يحملانه من رمزية واستعارة. يرتبط اشتغال عبد الكبير ربيع على الأسود فوق الأبيض، وأحيانا العكس، بمفهوم التدوين والترقيم والتسجيل في الحضارة والثقافة العربية، هذه الأخيرة التي اعتنت بشكل خاص بالعلامة المرقومة والمدونة والمنقوشة والمسطحة… وهو المسكون إلى حد كبير بكل ما يتعلق بهذه الثقافة الضاربة في القدم، قدم الصحراء والحضارات، من حيث إن الحضارة العربية (والإسلامية) هي «حضارة العلامة» بامتياز.

استطاع عبد الكبير ربيع منذ ثمانينيات القرن الماضي بالتحديد، أن يبصم على حضور فعال مهم في الساحة التشكيلية المغربية، واضعا اسمه في خانة المؤسسين للحداثة الفنية والممهدين للمعاصرة

لهذا يتخذ الشكل المتولد عن الحركية الانسيابية للون الأسود على الخلفية البيضاء، في أعمال ربيع، شكل علامة وحرف عربي بكل انسيابيته ومرونته، كأننا أمام تجريد وتسطيح بالمطلق للعلامات (الأحرف) العربية، ما يجعلها قابلة للتمدد على طول تعدد القراءات والتأويلات، فالعلامة عند ربيع أصبحت عنصرا تشكيليا، يصعب تحديده وقراءته، بل يستحيل ذلك، محتلا فضاء اللوحة ضاما إليه اللون والخطوط، وخالقا بالتالي بعدا تشخيصيا في اللوحة المجردة.. هكذا يجعل هذا الفنان من العلامة المرقومة قابلة ومعرضة إلى التغير المتعدد، كأنما يعيد تأليفها عبر المحو الممارس على الأثر عند كل عمل على حدة. فيتكرر بالتالي، الأثر (العلامة) بشكل غزير وحيوي، ما يجل الفنان «مهوسا بالعلامة». وهنا تكمن دقة وبراعة هذا المبدع الذي يشتغل على مفهوم الثنائية، الرسم /الصباغة، الأبيض /أسود، الضوء /الظل، الجلاء /القتمة، الترقيم /المحو، التجريد /التشخيص… كأنني به يشتغل بيدين، في محاولة ناجحة للتوحيد بين النقيضين.
وبالتالي، فنحن إزاء اشتغال فني باهر، عماده الأساسي البحث الدائم داخل سجيلين يبدوان للوهلة الأولى متصارعان، إلا أنهما يكملان بعضهما بعضا… وهذا ما دفع هذا الفنان الباحث ألا يجعل عمله يستوطن مدارج الواحدة دون الأخرى. إلا أنه متحمس بشدة إلى اعتماد الأبيض والأسود، أساسين ينبعث منهما كل منجز يصوغه بمهارة رسام وفنان صباغي. إذ إن هذين اللونين يولدان تباينا لونيا (جلاء – قتمة)، حيث بقدر ما يبرز أحدهما يبرز الثاني، إلا أن ربيع وهو يوظف الأسود فوق الخلفية البيضاء، فإنما سعيا منه إلى إعطاء الأبيض (الضوء) جلاءً ووضوحا أكثر، وإبرازه أمر عائد لاعتبارات صوفية محضة، أولا من حيث إن عالمنا هذا، عالم الكون والفساد، كما يذهب أهل الحل والعقد، هو أيضا عالم المتناقضات، التي أوجدها الخالق لإحداث توازن وتكامل بين المخلوقات، كما هو الحال على مستوى الباطن والظاهر والجواني والبراني. وثانيا من حيث إن كل الأشكال والألوان والهيئات التي تدور وتحوم حول الضوء، مقصدها التشبع من نوره حد الانفلات والتلاشي والتوحد فيه ومعه، كما هو حال تلك الفراشة التي تحترق، وهي تقترب أكثر وأكثر من منبع الضوء. وما الصوفي إلا ذلك الإنسان الذي ما زال يرتقي ويرتقي حتى يتحد والذات الإلهية الموجود في كل مكان، إذ إن النسخة الكونية هي صورة للنسخة الإلهية. ويستند في توضيح ذلك الشيخ الأمير عبد القادر، إلى الآية القرآنية «قل كل يعمل على شاكلته»… أما عبد الكبير ربيع، فحينما يوظف الأسود إلى جانب الأبيض، فإنما غاية في إعلاء وإجلاء هذا الأخير، وإبرازه، فعكس الفنانين المقاربين له في المنجز، لا يبتغي ربيع من الظل إلا سبيلا لبلوغ منبع الضوء، إذ كما يقول الباحث السوسيولوجي الراحل عبد الكبير الخطيبي عن أعمال ربيع، بأنه «نظراً لأن النظرة لا تنزاح بعيدا عن الفضاء المحيط، الذي يقابل أفقا للضوء، والذي جعله من جسد الفنان مُنْبَثَقاً للحركية والإيقاع، حوله تُرسم دائرة متحركة تجعله يعمل خارجها وداخلها، محددا حصته من المرئي، تجديدا للضوء، متصارعا مع هذا الأفق المنير، الذي يستدعيه وينفلت منه».

أكثر من معرض استعادي:

عبر كل ما راكمه عبد الكبير ربيع من منجز صاغه وطوره منذ العقد السادس من القرن الماضي، يجعلنا اليوم ونحن بصدد معرضه الاستعادي «سِواهُ نَفْسُهُ»، المقام في دار العرض (أرتوريوم) في الدار البيضاء، إزاء محصلة فنية فارقة، تضم في طياتها اشتغالا متعدد المعارج والمدارج، حيث ونحن نتجول بين ضفاف المعرض، تصادفنا لوحات هائلة الحجم تستحضر مشهدا من مشاهد غابات وجبال وبيئة طبيعية ترعرع فيها ربيع؛ مستحضرا إياها عبر رسم بالفحم لا تدخل فيه للألوان – إلا لماما- ولا تخطيط مسبق له، كأني به هذا الفنان، يباشر لوحته بعدما استذكرها في مخيّلته، واستحضرها في ذاكرته. وكما نقابل في المعرض، سلسلة من تجريدياته العلاماتية البيكرومية، التي تحضر باعتبارها شاهدا على براعة هذا الفنان في صياغة «مشهدية» واحدة، من خلال زوايا متعددة وغير متشابهة المفردات التشكيلية.. كأننا أمام كتاب أساليب لغوية أدبية تحاول التغلب على صعاب إعادة تركيب الجملة، والتعبير كل مرة بشكل أدبي مختلف عن الفكرة نفسها.
اللوحة التجريدية إذن عند ربيع، هي تعبير متعدد ومختلف عن العلامة ـ والتعبير الجمالي- نفسه.. عبر إعادة ترتيب المفردات الصباغية في كل عمل بطريقة تختلف عن السابق، لكن في تقارب مدهش، يجعل المشاهد يعتقد نفسه أمام قطعة سيمفونية ضخمة تتعدد فيها الإيقاعات الصاعدة والهابطة، موظفة الآلات الموسيقية نفسها عند كل إيقاع. ما يجعلنا نصفها بـ»شاعرية اللون الواحد»، باعتبار الأبيض لونا محايدا، أي إنها شاعرية الظل (الأسود) الذي يسعى إلى الإعلاء من الضوء (الأبيض اللامع).

٭ شاعر وباحث جمالي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *