حفريات المغربي أحمد الأمين… عندما تتماهى اللوحة مع الحياة

«كنت ما زلت طفلا، عندما استقدم أبي حقيبة خشبية ووضعها في مكان منعزل من البيت، لم يكن أحد يأبه بهذه الحقيبة سواي، كنت كلما اقتربت منها استحظرت حكاية العلبة السرية، وحكاية الغرفة السابعة في حكايات الجدة فتكونت لديّ باكرا فكرة أن كل مغلق سر. وبفضول طفل فتحت الحقيبة، لم تكن تحوي سوى أدوات تقليدية للنجارة، […]

حفريات المغربي أحمد الأمين… عندما تتماهى اللوحة مع الحياة

[wpcc-script type=”5bb846efc7c0dfb1f2e93763-text/javascript”]

«كنت ما زلت طفلا، عندما استقدم أبي حقيبة خشبية ووضعها في مكان منعزل من البيت، لم يكن أحد يأبه بهذه الحقيبة سواي، كنت كلما اقتربت منها استحظرت حكاية العلبة السرية، وحكاية الغرفة السابعة في حكايات الجدة فتكونت لديّ باكرا فكرة أن كل مغلق سر. وبفضول طفل فتحت الحقيبة، لم تكن تحوي سوى أدوات تقليدية للنجارة، الحرفة التي كان يزاولها جدي، أفرغتها من أغراضها وجعلت منها لعبا أتسلى بها في زمن شحت فيه اللعب، دأبت على فتحها كل يوم.
عندما أتأمل قصتي مع هذه الحقيبة، أدرك مدى تأثيرها عليّ فقد كانت مدرستي الأولى في تعلم الاشتغال باليد، وكان جديرا بي أن أقر بفضلها عليّ». هكذا أسر إليّ الفنان أحمد الأمين أثناء دردشة عن جينيالوجية تعاطيه للفن التشكيلي، وهي كما يبدو تعود إلى الزمن الأول، زمن التشكل البدئي. لتجربة الأمين مراحل، كل مرحلة اندمغت بطابعها الخاص، ولا يمكن تحقيب المشوار الفني إلا بالنسبة لفنان أصيل حقق تراكما فنيا، وتتماهى عنده اللوحة مع الحياة.

المرحلة الزرقاء:

يقول «أحمد أمين»: «بالنسبة لي، ومن خلال تجربة عمرت ثلاثين سنة، قطعت مراحل، كل مرحلة تفردت بخصوصياتها اللونية، والموضوعاتية، ففي مرحلة سابقة اشتغلت على الأزرق، وسميتها: المرحلة الزرقاء تزامنا مع الانتقال من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين، الذي أثار أسئلة عديدة عبر مجملها عن تخوف من هذا التحول، وهي حالة طبيعية تنتاب الإنسان عند كل انتقال، وعبور، وكنت متفائلا على عكس الكثيرين، التفاؤل الذي عبرت عنه بالأزرق اللون الدال على الطمأنينة، والسكينة، والدعة كما تصورته «.
كانت المرحلة الزرقاء أولى مراحله التي انتسب إليها، والتي تذكر بمرحلة «بيكاسو» الزرقاء، إلا أن هذه الأخيرة أرخت للحرب، وما تخلفه من بؤس وحرمان وفقر وخوف، عكس مرحلة «الأمين» الذي نزع فيها عن هذا اللون كدرته وأصبح دالا على السمو، والصفاء، والسكينة، وهو يميل إلى تقطيع لوحته إلى مقاطع عرضية متوازية في اللون، وذات انسجام ممتع في تدرجاتها النغمية والتشكيلية.

لم نعد في هذه المرحلة التي يمكن تسميتها أيضا بمرحلة الحكمة، والتأمل أمام «الأمين» الشاب الرومانسي، بل ألفينا أنفسنا ونحن نطالع لوحاته أمام حكيم تمرس بالحياة، وسبر غورها وأغوارها، وكانت اللوحة عنده فضاء للتجلي والتعبير.

المرحلة الرومانسية:

بعد المرحلة الزرقاء يتابع الفنان: اشتغلت على موضوع آخر هو موضوع العشق، أو ما يمكن تسميته بالمرحلة الرومانسية». زامنت هذه المرحلة شباب الفنان، المرحلة العمرية التي ينزع فيها الإنسان إلى الأنثى وطنا، وملاذا، ومعادلا موضوعيا لتحقيق التوازن، يضيف الفنان: «كنت أطل من نافذة مرسمي على نهر «أم الربيع»، فأرى منظرا طبيعيا بديعا، الماء الذي ينساب بهدوء نحو الأطلسي، وخضرة الأشجار الوارفة، والحقول الممتدة، تطل من الضفة الأخرى، كان هذا المنظر الربيعي ملاذا للعاشقين الذين يحجون إلى المكان، فتكتمل الصورة بحظور الوجه الحسن. مأخوذ بهذا الجمال الطبيعي، كنت كلما اجتاحتني الرغبة في التعبير أجدني أرسم بعضا من ملامحه». كان للجسد الأنثوي في هذه المرحلة حضورا فارقا في اللوحة، وفي هذه المرحلة تبقى لحرارة الألوان وتجانسها قيمة أساسية، وهي ألوان خالصة، قوية، تنسجم وطبيعة الموضوع، حيث الأحمر لون العشق، والأصفر لون التملك والغيرة، يتداعيان، ويتراصفان، في شوق أخاذ.

المرحلة الصوفية:

لم نعد في هذه المرحلة التي يمكن تسميتها أيضا بمرحلة الحكمة، والتأمل أمام «الأمين» الشاب الرومانسي، بل ألفينا أنفسنا ونحن نطالع لوحاته أمام حكيم تمرس بالحياة، وسبر غورها وأغوارها، وكانت اللوحة عنده فضاء للتجلي والتعبير. لا تخفى النزعة الصوفية في لوحات هذه المرحلة، إن على مستوى اللون، أو على مستوى الموضوع، فإذا كان المتصوف يكتفي بالبسيط والضروري، للوجود، ويبتعد عن المغالاة، فالفنان اقتصر على الألوان البسيطة البعيدة عن البهرجة، لدرجة اختزال كل الألوان في اللونين: الأبيض والأسود، وهي ألوان حيادية انسجاما مع ميل المتصوف إلى العزلة، والحياد، فـ»كثرة البشر تحجب الرؤية»، كما يذهب إلى ذلك شيخ المتصوفة محيي الدين ابن عربي. وهي أيضا ألوان غير مصنفة مع الألوان الصافية أو النقية، فالأسود نشأ من انعدام الألوان، أما الأبيض فهو ينتج عن مزج جميع الألوان بكميات متساوية، وهو بذلك انعكاس لجميع الألوان، إشارة إلى تجربة المتصوف السابقة في الحياة، فهو قد خاض في ألوانها قبل أن يزهد فيها.
وقد تميزت لوحات هذه المرحلة من جهة الموضوع بعرض جماعة من الناس وقوفا في حلقة بالتحام متداخل، حيث تشف غلالات الألوان عن كتل أجساد متداخلة، متحدة بشوق، تماما كما يكون الأمر في حلقات الذكر، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه أيضا بـ»الحشد» الذي يتصل مفهومه برؤية للعالم، قوامها الإجماع على الفكرة الواحدة، والموقف الموحد، أو بعرض وجوه، هي في الغالب لرجال شيوخ، تنم سحناتهم عن الهيبة، والوقار والحكمة، شيوخ بلحايا مسترسلة بلغوا من العمر عتيا، وأخذوا بمجامع دروسها وترفعوا عن كل شوائبها الزائدة، انسجاما والنفس الصوفي للوحة، لذلك يحتل الوجه حيزا كبيرا في سماء اللوحة، يعتلي فضاء/ أرضا امتزجت فيه/ها الكتابة بالمحو حتى لنصبح أمام محو مكتوب، وكتابة ممحاة، وهنا تتعمق الدلالات وتثار الأسئلة: أي علاقة بين سماء اللوحة وأرضها؟ لا أرض بدون سماء، ولا سماء بدون أرض، الأرض مرادف للتجربة (الكتابة والمحو)، والسماء معادل للتأمل في هذا كله. هكذا تنسج اللوحة عند الأمين حكمتها، وتعزف تناغمها. الأرض هي كل التجارب التي يمحو بعضها بعضا، نكتب، نجرب، نستوعب الدرس، نقوم بالمحو لأجل تجربة أخرى، ودرس آخر، وهكذا في دورة هي نفسها دورة الحياة، وصولا إلى سماء الحكمة التي لا تتأتى إلا بقدر ما أنجزناه من كتابة ومحو (تجارب) في حياتنا.
ثم إن اختيار اللونين: الأبيض والأسود يأتي منسجما انسجاما كليا مع الوجوه الوقورة التي تخطت مرحلة التعاطي مع بهرجة الحياة، وتنسجم تماما مع ثنائية: الكتابة والمحو، نكتب بالأسود (سلطان الألوان، لون الغموض، والتوغل في الزمن البعيد)، ثم نمحوه لنعود إلى هيبة البياض، لون البدايات، تلك بعض آيات اللوحة عند الأمين، لوحة تقرأ الحياة، لوحة ترسم الحياة.

٭ باحث من المغرب

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *