كارلوس دييز… أحدُ مفكِّري الألوان في القرن العشرين

فَقَدَ المشهدُ الفني العالميّ الفنّانَ كارلوس كروز دييز، أحدَ أعلامه المجدِّدين في تعبيراته الفنية، الذي رحل عن عالمنا منذ ثلاثة أيام عن عمر ناهز 95 عاما. وكان دييز قد ولد في كاراكاس في فنزويلا عام 1923، واشتغل بعد تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة رساما في عدد من المجلات والصحف، وأصبح في عام 1946 مديرا فنيّا […]

كارلوس دييز… أحدُ مفكِّري الألوان في القرن العشرين

[wpcc-script type=”e5de8a91cf88aae0aed3ae5f-text/javascript”]

فَقَدَ المشهدُ الفني العالميّ الفنّانَ كارلوس كروز دييز، أحدَ أعلامه المجدِّدين في تعبيراته الفنية، الذي رحل عن عالمنا منذ ثلاثة أيام عن عمر ناهز 95 عاما. وكان دييز قد ولد في كاراكاس في فنزويلا عام 1923، واشتغل بعد تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة رساما في عدد من المجلات والصحف، وأصبح في عام 1946 مديرا فنيّا في وكالة الإعلانات في بلاده، وفي تلك الفترة أقام أول معرض شخصيّ لرسوماته في كراكاس في المعهد الفنزويلي الأمريكي، وشكّل مع زميليه الفنانين سوتو وأليخاندرو أوتيرو ثالوثا إبداعيّا أعاد الاعتبار للفن الفنزويلي منذ أربعينيات القرن العشرين. كما عمل دييز أستاذا للتصميم المطبعي في الجامعة المركزية لفنزويلا، وانصبّ جهده الإبداعيّ على تحليل ظاهرة اللون، والبحث عن كيفية يصبح بها كلّ لونٍ نمطا غير منتظم من التهيُّؤات التشكيلية، ولم يكن في أعمال دييز تركيزٌ على ثيمات بعينها، فلا يوجد فيها معنى رمزي أو إشارات ثقافية، إنّما كانت كلّ غاية لوحاته هي أن يُحرّك اللون ويخلق به وهمَ ألوان أخرى متحوّلة في كلّ لحظة بحسب زاوية نظر المتلقي وحجم الإضاءة المسلّطة عليها، وهو ما عبّر عنه بقوله: «دائما ما أقترح في أعمالي لونا مستقلاّ، لونا بلا حكاية مسبقة، وخاليا من الرمزية، اقترحه بوصفه حقيقة نامية باستمرار، ولها نفوذ على المُشاهد».


في عام 1955 أقام دييز في برشلونة لمدة عام ونصف العام، ولكنّه فضّل الإقامة الدائمة في باريس بداية من عام 1960. وقد لمع نجم هذا الفنان عالميّا منذ عام 1965 عندما شارك في المعرض التأسيسي «العين المستجيبة» الذي أُقيم في متحف الفن الحديث في نيويورك، حيث خلقت تكويناته اللونية ضجة إعلامية في ذلك الوقت، وعُدّ أحدَ مؤسّسي الفن البصريّ. وتضمن ذلك المعرض أعمالا لفنانين أمريكيين وأوروبيين معروفين آنذاك على غرار جوليان ستانكزاك، وفيكتور فاساريلي، وجوزيف ألبرز، ولاري بيل، وروبرت إيروين، وأجنيس مارتن وفرانك ستيلا.

اللون مستقل لأنه يتم تمييزه بدون الاعتماد على أي حكاية أو نموذج خارجه. وهكذا تم تأسيس جدلية أخرى بين المتفرج والعمل، أي خلق علاقة أخرى من المعرفة الفنية».

واتّفق نقّاد المعرض على أنّ أفضل ما عُرِضَ فيه هي أعمال كارلوس دييز، حيث بدت أعمالا قويّة التأثير، ومشاغبة للرائي، وموهِمة إيّاه بما لا ترى عيناه: إنها تمنحه أحساسا ذهنيّا بتحرّك مضمون اللوحة، فيرى وميضها ويسمع أزيزها ويشعر بتوهّجها، وهو إحساس يُخرج الرائي من سلبية تلقّي لوحات الفن التشكيلي إلى فضاء المشاركة في إنتاج معانيها، ويحفزه لأنْ يتخلّى عن المقولات الفنية الأكاديمية التي عملت على النظر إلى اللوحة التشكيلية بوصفها حقيقة ثابتة لصالح تتبّع حركتها ومتاهاتها وأوهامها. وقد شرح دييز هذا التوجّه الفني بقوله: «أحاول تسليط الضوء على اللون باعتباره حالة سريعة الزوال ومستقلة. اللون كائن متغير باستمرار، وفي تغيّره يخلق حقائق مستقلة عن الماضي أو المستقبل، هي حقيقةُ حاضر دائم. اللون مستقل لأنه يتم تمييزه بدون الاعتماد على أي حكاية أو نموذج خارجه. وهكذا تم تأسيس جدلية أخرى بين المتفرج والعمل، أي خلق علاقة أخرى من المعرفة الفنية». وقد أثنى نقّاد الفن المعاصر على دييز واعتبروه فنانا نجح في التأسيس لوعي فني جديد يحتفي بالخصائص الفيزيائية وتأثيرات الألوان، حيث أمكن له أن يخلق فنّا من تأثيرات الضوء على الألوان، بدون الحاجة إلى أي شكل أو وسيط مادي خارجي. وفي هذا الشأن قال دييز في أحد حواراته: «بدأ شعوري بضرورة البحث عن الطاقة الحركية في الألوان منذ زيارتي إلى باريس، لقد زرت معارضَها واكتشفتُ أن اللوحات المعروضة ميّتة إلى حدِّ أني شككتُ في أنّ كلّ اللوحات هي من رسم فنّان واحد، لقد بدت لي تلك اللوحات ثابتة وصامتة وسلبيّة، ولذلك تأكّد العزم عندي على خلق جدليّة بين الرائي واللوحة، عندما تقف أمام إحدى لوحات رامبرانت سترى فقط ما رسمه رامبرانت، ولا شيء غيره، وهذا ما أسمّيه السلبيّة الفنيّة، ولذلك عمدتُ في تكويناتي اللونية على جعل الرائي يتخذ موقفا ممّا يرى، وهو موقف يتغيّر باستمرار بسبب تغيّر الضوء في اللوحة، لقد سعيتُ إلى تحرير الألوان من قيودها، وفجّرتُ فيها طاقاتها على البوح، والحركة، والتغيّر المستمرّ وذلك لخلق تجربة جمالية كاملة، تجربة يعيشها الرائي بجسده وذهنه معا». وبهذه الفلسفة التشكيلية صار دييز أحدَ مفكري الألوان في القرن العشرين وأشهر ممثّل للفن البصري والحركي، وهو تيار فني يدعي «الوعي بعدم الاستقرار الحقيقي»، وينهض خطاب كارلوس كروز دييز الفنيّ على دعامة تفجير ممكنات الظاهرة اللونية وجعلها حقيقة مستقلة بذاتها ونامية، ولها قدرة على التطوّر بحريّة في المكان والزمان دونما خضوع لشروط الشكل والمضمون. وبهذه الفلسفة الفنية وجد دييز طريقة جديدة لدفع الفن إلى الأمام، بعيدا عن القيود الأفكار الأكاديمية، وكانت أولى لوحاته التي اخترق بها الفهم السائد للفن التشكيلي هي تلك التي رسم فيها خطا أحمر وخطا أخضر منحرفا على خلفية سوداء، صانعا بهذيْن الخطّيْن وهما بصريا ظهر فيه اللون الأصفر بطريقة مّا دون أن يكون موجودا أصلا في اللوحة. وقد مثّلت هذه اللوحة نواة لكل إبداعاته اللاحقة التي حقّقت انتشارا عالميّا، وحضرت في الفضاء العام بعدد من العواصم على غرار لوحاته في مطار كاراكاس الدولي، ومستشفى جاكسون في ميامي، هذا إضافة إلى حضورها في متاحف عالمية من قبيل متحف نيويورك للفن الحديث، ومركز بومبيدو في باريس، ومتحف الفنون الجميلة في هيوستن.

٭ كاتب تونسي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *