حكاية «المطرود من مجاله» في أعمال ناصر عساف
[wpcc-script type=”0c0695ce9a3d6f515d0a5023-text/javascript”]

إشارات إلى متن الحكاية
الفنان ناصر عساف يلزم نفسه في اقتناص اللقطات المؤثرة في الحياة اليومية . فقد أنجز مجاميع من الصوّر الفوتوغرافية، شمل فيها ظواهر اجتماعية عديدة، لعل نماذج الأرصفة واحدة من الاهتمامات المهمة. كما
أنه اهتم بشريحة تنتمي إلى فئة الرصيف، وهم نماذج المطرودين من مجالهم في الحياة. والطرد تتشعب قيمته، أي أسبابه، لكنها في النتيجة تتموّضع ضمن الإهمال الاجتماعي والضغط غير المبرر من القوى المتنفذة. وقد لاحظت في سياق الحياة أن ثمة مطرودين قسراً في مستشفى الرشاد في بغداد، هذه الشريحة التي تطبعت على مكان الطرد، واعتبرته بحكم الألفة معه دار البقاء.
ونماذج العساف اتخذت لها مكاناً لا شرقيا ولا غربياً، بل إنه ضمن فضاء مفتوح، افترض المطرود أنه دار بقاء، فعمل على تأثيثه بعد تشييد من نفايات البيئة. حكاية النموذج كانت لها مسببات موضوعية للطرد، فهو لم يختر غياب سيطرة العقل، وإنما فرضته حال ما استطاعت أن تُرحّل السيطرة على فعالياته، فاضمحلا سيطرة العقل على فعاليات الجسد، كانت خير ملاذ اختاره النموذج كي يأوي إليه.
تقول الحكاية عبر الصوّر المتعددة؛ إنه بدأ مستقراً في اختيار البقعة التي يسكنها، ودأب على تجميع ما من شأنه الإيواء، فكان المكان وكان الزمان. فهو كالإنسان الأول حين اختار الكهف. منزل النموذج مركب من مواد متروكة، تركتها ذائقة الإنسان، لأنها غير مفيدة، والنموذج من جعلها مفيدة بحكم وظيفتها الجديدة. إذن كان يدرك ضرورة بذل الجُهد لتحويل وظائف المهمل. وهذا بطبيعة الحال نوّع من التعبير عن العقل، وإن كانت النظرة الاجتماعية إزاءها مختلفة، وتوصيفها بالجنون والخبل والضياع، لكن النموذج خلق من ضياعه وجودا جديدا، يستمرئ وجوده ويألف جديده، لأنه يوّفر له الأمان من تصرفات الآخر. هذا هو متن الحكاية التي رواها فوتوغرافيا الفنان، محققاً بذلك منجزاً يُضاف إلى ما حققه من قبل وهو يرصد حياة المطرودين.
البنية الفنية للصورة
تنتمي مجموعة الصوّر التي التقطها الفنان إلى فن البورتريت. وبهذا التوّجه كان لزاماً عليه أن يتخذ من اختيار زاوية اللقطة الأهم في رصد حياة النموذج الذي تميّز بمزاج تفرض عليه طبيعة الغياب السيطرة على عقله. فهو لا يفكر كإنسان سوي، لكنه سوي بمنطق وجوده وقناعاته، فمرضه فرض عليه قناعات رافقت ونمت ضمن وجوده الإنساني. من هذا تكون تقلبات مزاجه حالة يفرضها عليه غياب انتظام منظومته التي تُعيّن الأشياء وتوّضح صورتها له. فهو بهذا عشوائي التصرف، وربما عدواني التصرف دفاعاً عن وجوده. من هذا يتوّجب النظر إلى أي نموذج من اللقطات بمنظار نفسي مختلف، لأننا بصدد رصّ المعنى الذي يُحققه البورتريت حصراً، باعتباره فن دراسة الشخصية عبر كل مكوّنات القسم العلوي من الجسد، وحصراً الوجه، الذي هو مركز العطاء النفسي للإنسان. إذ تدفع كل التصرفات الجسدية بنتائجها نحو تشكيل تقاسيم الوجه. فالمتحقق الفني للقطة مرتبط جدلياً بالطبيعة الإنسانية، فنحن إزاء معنى لظاهرة ومعنى للفن. فهما متلازمان تماماً، ولا فكاك بينهما، لأن كل واحد بمثابة نتيجة للآخر.
نماذج العساف اتخذت لها مكاناً لا شرقيا ولا غربياً، بل إنه ضمن فضاء مفتوح، افترض المطرود أنه دار بقاء، فعمل على تأثيثه بعد تشييد من نفايات البيئة.
في اللقطة
تأتي براعة الاختيار للقطة من نوع التوزيع للضوّء والظِلْ، فهما أبجدية الصورة الفوتوغرافية. ولما كان التصوير بالملوّن فإن الضوء والظل يكمنان في الدرجات اللوّنية التي تُحدد الأجزاء والكليات، لذا نجد أن عيّن الكاميرا رصدت الحالة السيكولوجية التي عليها المطرود، في كوّنه وضمن وضعه في مكان الطرد المنعزل عن الوجود الاجتماعي، إلا أنه وفق معطيات تقاسيم الوجه ونظرات العينين، يرسل رسالة تكمن فيها عناصر كثيرة منها (الوجع المضمر، القناعة في ما هو عليه، التحديق بلا مبالاة، نقد ما يرى وفق استرخاء جسدي) هذه الحالات شكّلت نوعاً من ظاهرة الاعتزاز بالذات، التي يتحلى بها النموذج. فهو ذو قناعة في الاختيار الذي هو في حقيقته طرد، من مبدأ أن لكل إنسان مأوى، وعلاقات أُسرية واجتماعية. ولما كان كل هذا مضمحلا، بل ممحوا، فهو مطرود في المقياس العام للوجود.
إن القناعة التي توّفرت للنموذج متأتية بقبول الحال، لأنه يُعطي له فسحة من الحرية في التصرف والعيش بدون مزاحمة الآخر. العزلة هنا علاج نفسي للكائن الذي حُرم من مجاله الحقيقي، الذي هو ضمن قانون الإنسانية فرض وجودي.
تجسد اللقطة
عدّة مرام ممزوجة مع بعض. وهذه المرامي اجتمعت كي تُحقق مرمى مركزيا واحدا. لعل البداية منها في اختيار زاوية اللقطة، ففيها اختيار نوّعي، لذلك راعت عين الكاميرا فضاء الزاوية، وسطوع أشعة الشمس من جهة، وموازنات ذلك مع ظهور النموذج على أناقة، منها تشذيب شعر الرأس والذقن من جهة أُخرى. والظهور في شوارع المدينة. هذا على صعيد امتزاج كيفيات نجاح اللقطة وتميّزها في المقياس العام، لكن في الجانب الفني، وجدنا الفنان ركز بمهارة عالية وتقنية فنية مكثفة على فعالية الضوّء والظِلْ، لاسيّما على تقاطيع الوجه، فقد ظهرت على صفاء واكب مظاهر الأناقة العامة للجسد والوجود المادي للنموذج.
إن فعالية الضوّء والظِلْ هنا تؤكد على نوع الإحساس النفسي عند النموذج، بمعنى ظهر على توازن حسي وتغيّر جديد. أي أنه استعاد التركيز وظاهرة التأمل في الوجود، فهو قد أخفى مظهره الذي أضافه له الطرد، وأعاد لهيئته المعنى الحقيقي لوجوده.
إن التغيير وإن ظهر مجتزأً إلا أنه كاف لعكس الظاهرة النفسية، فالعري كامن في الذات، لأنه يشكل موقفاً فلسفياً، لا يميّز النموذج هذا، بل ميّزة الكثيرون الذين انقطعوا للعبادة والتأمل في الوجود كالمتصوّفة، فهم يتجردون من مباهج الوجود المضافة لوجودهم العقائدي والنفسي، وما ظهورهم على حالة التقشف، إلا انعكاس للقناعة والتوازن مع تأملاتهم بدافع بناهم الفكرية. ونموذج الصورة هنا من هذا النوع الذي يجد في ذاته خصائص مختلفة، لكنه يعتز بوجوده وسط مكان العُزلة.
٭ ناقد عراقي