تأنيث وجع التاريخ في أعمال النحاتة السورية عُلا هلال
[wpcc-script type=”c36d6755fd0faa1d060da521-text/javascript”]

لا يزال سيل المتخيل الفني للمرأة السورية في مسيرة فن النحت جيلا بعد جيل، يَنْساح في الآفاق الإبداعية لهذا البلد الجريح، هذا ما اتضح من أعمال النحاتة عُلا هلال، خريجة كلية الفنون الجميلة في دمشق، حيث تتعرى من خلالها ملامح معاناة الأنثى كحضور دال، ولا غرو في ذلك فجسد المرأة بوصفه الدلالة الجمالية وأيقونتها الأولى في الفكر الإنساني، مذ تواطأت الثقافات على ذلك، سيظل مبدأ ومنتهى قصة الإنسانية بملهاتها ومسلاتها في خيال كل فنان.
حول تلك الربوع الممتدة تحت ظلال عرش زنوبيا الخالدة، لا ينفك يتولد ويتوطد الإحساس بحقيقة البداية الأنثوية للمكان، سوريا، التي تخلقت وتخلَّدت من جمال هذه البطلة في التاريخ، تبدو قد تماهت في الخيال الفني لأحفادها، حتى صارت الإشارة إلى المكان هي الإشارة ذاتها إلى الأنثى وبعضها يعبّر عن بعض، معطى استقام واضحا في أعمال النحاتة عُلا هلال، التي خلت في مجملها من أي شيء سوى الأنثى، مؤكدة أن هذا النزوع للتأنيث لا ينبع من مجرد تحيز كونها أنثى، بل من شعور بحاجتها الدائمة هي بالذات إلى الأنثى لملامسة ما ضاع في الوطن وفي المسرح الإنساني ككل.
المرأة ودلالاتها
تنتصر عُلا هلال في صمت أشكالها المنحوتة إلى أم الآلام، في الوجود الإنساني، وهي المرأة من خلال جعلها عالقة في مفترق المشاعر المتصلة بالحيوية المجتمعية، حيث يرقى المجاز النحتي بالتأثر بالمزاج النسوي الجامح، ليفوق في توظيف جسد المرأة المرئي في التعبيرات الجمالية، ويغدو بدلالات أوسع، تطال قيما أخرى صارت تتقلص في زمن العولمة وغربة الإنسان اليوم، وسط سيادة قيم السوق، فالأنثى المستقلة بطبيعة تكوينها العاطفي، الاجتماعي والتراحمي عن طغيان «فردنة السوق» المفروضة والمتسلقة لجسد الرجل من أجل قبلة، صارخة بالمعنى الغرائزي للوجود، تفجر من خلالها طاقة المشاعر المافوق مادية، لهي أبهى محاولة قبض فني على حاجة الإنسان لطبيعته الضالة عنه، أو الضال هو عنها، بسبب الانهيارات المتتالية القيمية، التي حولت الإنسان من غاية وجودية إلى وسيلة، ترتهن للسوق، في المرض، في الضحك في الحروب.
تؤكد هلال على أن الذاكرة ستعرف كيف تعترف وتتعرف على سر منطق الخراب ذلك، الذي دنس قدسية مكان عرف أبهى مراحل الفرح الحضاري للإنسانية عبر التاريخ، وتنحته في أشكال بديعة تأسر العقل وتطلق أسر الروح.
تجاوز المألوف
والتعبيرية التي كانت فكرتها الأساسية في المدرسة الألمانية، أن الفن ينبغي أن لا يتقيد بتسجيلات الانطباعات المرئية، بل عليه أن يعبر عن التجارب العاطفية والقيم الروحية والكشف عما وراء الأقنعة، تتبدى معالمها في جل أعمال عُلا هلال، وهذا حين تتحول، في رؤيتها للكون، للمرأة بوصفها بنية دلالية مركزية، كمنبت هذا الكون وأصل حقيقته وسر أصوله، فالحمل مثلا لا يقف عند مستوى العملية التكاثرية البيولوجية وفق الوظيفة السوسيولوجية، بل هو الارتجاع الدائم للحقيقة الأولى لسؤال الانبثاق، الذي يُرى أول ما يُرى من البطن البارز للمرأة المؤشر للقدوم للوعي بالتاريخ باعتباره منبع الإنوجاد، والأيلولة القسرية إلى الكينونة وفضائها التزاحمي التدافعي. من هنا يتضح أن قلق الأنثى المشتعل والمشتغلة في مخيال عُلا هلال التعبيري، يأخذ مبرراته الفنية من اعتبارات عابرة للقناعات المرئية، أي المستقرة في حدود المشهود السوسيولوجي الصرف إلى أبعاد السؤال الكينوني الأول المحيل بدوره دوما إلى سؤال الحقيقة بكل هواجسه، مؤكدا محورية المرأة في سيمياء الجسد، وأن ذلك يتجاوز نطاق الشكلانية الفنية في الوسيلة ليصل إلى عمق المعنى الفلسفي للفن لكونه رؤية عقلية بذائقة روحية في الرسالة.
اللحظة السورية
لكن الواضح أيضا من جل أعمال النحاتة السورية عُلا هلال هو ذلك الغياب الكبير لفجع اللحظة السورية، فهل لا يزال الأمر يختمر بالقدر الذي يلزمه من وقت حتى يندفع إلى طوايا المخيال المتكلم على الخشب والطين؟ رغم ذلك تؤكد هلال على أن الذاكرة ستعرف كيف تعترف وتتعرف على سر منطق الخراب ذلك، الذي دنس قدسية مكان عرف أبهى مراحل الفرح الحضاري للإنسانية عبر التاريخ، وتنحته في أشكال بديعة تأسر العقل وتطلق أسر الروح.
٭ كاتب جزائري