الفنان علاء جمعة يوثِّق الذاكرة العراقية بعين تشكيلية
[wpcc-script type=”64293ba9807940b673fafde3-text/javascript”]

نظّم «آرت هيل غاليري» في لندن معرضًا مشتركًا للفنانَين التشكيليَّين علاء جمعة وجلال علوان، انضوى تحت عنوان «ذاكرة عراقية». ونظرًا لأهمية هذا الموضوع وسعته ارتأينا البداية بتجربة الفنان علاء جمعة.
يتألف معرض الفنان علاء جمعة من 40 لوحة تتضمن 55 شخصية عراقية، لأن بعض اللوحات يحتوي على شخصيات متعددة ذات ثيمة واحدة مثل لوحة «المطربين التسعة» فثمة صلة فنية واضحة بين هذه الشخصيات التسع التي ترسّخت في ذاكرة العراقيين جميعًا.
لا يندرج هذا المعرض في إطاره الفني وحسب، وإنما يتعدّاه إلى توثيق الذاكرة العراقية، بدءًا من عام 1921 وحتى يومنا هذا. ولعل القارئ الكريم يعرف قبل غيره صعوبة الإحاطة بكل الشخصيات السياسية والعلمية والأدبية والفنية والفكرية، التي أسّست للذاكرة العراقية على مدى قرن من الزمان، خاصة أنّ المجتمع العراقي مكونٌ من قوميات وأديان ومذاهب شتى، فإذا ما تناول الفنانُ عددًا من الرموز السياسية فلابدّ له أن يتفادى رموزًا أخرى، ليس من باب الإهمال، وإنما بسبب المساحة المتاحة في المعرض الواحد، الذي لا يتحمل أكثر من العدد الذي تمّ عرضه في صالتي الـ»آرت هيل غاليري» والممرّ الضيّق الذي يفصل بينهما بحيث بدت الجدران مكتظة بالأعمال الفنية، التي تُشتّت تركيز المتلقّي ولا تُتيح له فرصة التأمل والانغماس بعمل فني واحد، بعيدًا عن فضاءات الأعمال الأخرى التي تقع في مرمى البصر مهما كان ضيّقًا ومحدودًا.
حظيت العائلة المالكة باهتمام كبير من لدن الفنان علاء جمعة فصوّر الملك فيصل الأول في عمل تشخيصي جميل يدلل على براعته الفنية في هذا المضمار، كما صوّر «الملك غازي فيصل، والملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله، والباشا نوري السعيد» في لوحة فنيّة أخّاذة تستدعي إلى الأذهان طريقة تصفيتهم الوحشية التي أغرقت العراق بحمّامات دمٍ مازال العراقيون يغتسلون بها بين آنٍ وآخر.
وفي مواجهتهم ثمة لوحة للزعيم الركن عبدالكريم قاسم، الذي أسقط النظام الملكي في العراق وفتح الباب واسعًا لحكم العسكر، الذي استمر حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي حين أجبر صدام حسين رفيق دربه المهيب الركن أحمد حسن البكر على التنحّي والتخلّي عن السلطة بذريعة حالتة الصحية الآخذة في التدهور. وفي زاوية ميتة من القاعة عُلقت صورة أحمد الجلبي الذي ورّط الإدارة الأمريكية بغزو العراق.
في كل حقبة من تاريخ العراق ثمة أناس يتلألأون مثل الذهب المتوهج تحت أشعة الشمس، ولعلي لا أغالي إذا قلت إن المكوّنات الدينية الأخرى كاليهود والمسيحيين والصابئة المندائيين، والإيزيديين وغيرهم من الذين قدّموا خدمات جليلة لا يمكن أن ينساها العراقيون إلى يوم الدين، ويكفي أن نشير إلى حسقيل ساسون، أول وزير مالية في العراق، مازال العراقيون يذكرونه كمثالٍ نموذجي للحرص والنزاهة والأمانة، ومناحيم صالح دانيال، عضو مجلس الأعيان الذي مدحه الرصافي بقصيدة عصماء، لأنه بنى دارًا لأيتام المسلمين، كما استضاف الملك فيصل الأول وعائلته في قصره حينما غرق قصر شعشوع، الذي استأجره الملك قبل أن يكتمل بناء البلاط الملكي. اختار الفنان علاء جمعة شخصيات يهودية أخرى أبرزها، الشاعر والقاص العراقي أنور شاؤول، والفنان والملحن صالح الكويتي الذي أسس الأغنية البغدادية العراقية، ولحن أكثر من 700 أغنية عراقية، لا تزال حيّة نابضة يرددها العراقيون وكأنها أُنجزت بالأمس القريب. وفي السياق ذاته هناك لوحة لسليم البصون، وهو من رواد الصحافة العراقية الذي سُجن ونُفي عدة مرات لنشاطه السياسي، وانتقاده للحكومات المتعاقبة. أما التفاتة علاء الذكية فتتمثل باللوحة الرائعة التي جسّدها لرينيه دنكور، أول ملكة جمال في تاريخ العراق، وكانت المسابقة مقتصرة على بغداد وقد تُوجت باللقب عام 1947.
حصة الشخصيات الكردية قليلة لكنها حاضرة بأسماء مهمة أبرزها الشاعر عبدالله كَوران، والشاعر بلند الحيدري، والمصور الفوتوغرافي ناظم رمزي.
انتقى الفنان علاء جمعة خمس شخصيات عراقية مسيحية، حيث رسم لوحة معبّرة للراحل يوسف سلمان يوسف (فهد)، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي الذي أُعدم مع ثلاثة رفاق آخرين. ومن الأدباء المسيحيين رسم الفنان لوحة للروائية أنعام كجه جي التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية ثلاث مرات آخرها رواية «النبيذة» المرشحة بقوة للفوز بجائزة هذا العام. كما أبدعت ريشة جمعة في إنجاز لوحة الشاعر سركون بولص، وأخرى للصحافي روفائيل بُطي، وثالثة لعالِم الآثار بهنام أبو الصوف. أما المكوّن الصابئي المندائي فقد حضر من خلال الدكتور عبد العظيم السبتي الذي أُطلق اسمه على كويكب الأسترويد الذي يدور بين المشتري والمريخ، تثمينًا لإنجازاته العلمية في علم الفلك.
حصة الشخصيات الكردية قليلة لكنها حاضرة بأسماء مهمة أبرزها الشاعر عبدالله كَوران، والشاعر بلند الحيدري، والمصور الفوتوغرافي ناظم رمزي. أما الشخصيات العراقية من أصول عربية فهي الأكثر هيمنة بسبب نسبتها السكّانية الكبيرة، ففي مجال الأدب رسم الفنان لوحات معبّرة لشعراء من أجيال مختلفة تبدأ بالجواهري والسياب ولميعة عباس عمارة ومظفّر النواب وعدنان الصائغ، وتمرّ بالروائيين البارزين أمثال غائب طعمة فرمان، وجبرا إبراهيم جبرا، وتنتهي بعدد من الفنانين والمعماريين واللغويين والمؤرخين والضباط والساسة أمثال جواد سليم، محمد غني حكمت، ضياء العزاوي، فلاح محمد مهدي الجواهري، أديب نامق، محمد مكية، مهدي المخزومي، عبدالرزاق الحسني، عبد المحسن السعدون، جعفر العسكري، جلال الأوقاتي وغيرهم، مع الأخذ بعين الاعتبار الفنانة والمهندسة زها حديد لأن حضورها الفني والمعماري يشكّل عالمًا قائمًا بذاته، ويمكن القول باطمئنان كبير أنها أضفت بتصاميمها المعمارية جمالاً قلّ نظيره في الجهات الأربع لكرتنا الأرضية.
لا يمكن القول بأن هذه الأعمال تشخيصية واقعية فقط لأنّ الفنان علاء جمعة ذهب أبعد من ذلك كثيرًا فقد حاول في العديد من هذه اللوحات الأربعين أن يُقرن كل شخصية بمنجزها الحقيقي البارز، كأن يظهر الكوكب الذي اكتشفه عبد العظيم السبتي، أو يركز على ديوان «أزهار ذابلة» للسياب، أو «للريل وحمد» لمظفر النواب، أو «انتظريني تحت نصب الحرية» لعدنان الصائغ، كما يجسّد بعض الموضوعات ذات العلاقة بمنجز كل شخصية على حدة. أما الملحوظة الأساسية التي لم يحسب لها علاء جمعة حسابًا، فهي غياب بعض الأسماء الإبداعية البارزة، فعندما نتحدث عن الذاكرة الشعرية فلابد أن يحضر سعدي يوسف، وفاضل السلطاني، وفوزي كريم. كما ينبغي حضور فؤاد التكرلي، وفاضل العزاوي، وإبراهيم أحمد في الرواية، وفي حال الحديث عن الشعر الكردي فلابد أن يحضر شيركو بيكس، ولطيف هلمت، وجلال زنكَابادي وغيرهم. أما المكوِّن التركماني فقد غاب تمامًا وكان بالإمكان البحث عن شخصيات أدبية وفنية وسياسية لإدراج بعضها ضمن طيّات هذا المعرض الجميل الذي حظي بإعجاب الجمهور العراقي الذي اكتظت به صالات الغاليري الصغيرة نسبيًا، وخرج منها فرحًا ومزهوًا بهذه القامات الإبداعية الشامخة التي أحبّت العراق وأخلصت لأرضه ومائه وسمائه، ودوّنت بحروف من نور ذاكرته الإبداعية التي نحملها معـــنا مهما تغرّبنا واشتطّ بنا المزار.
٭ كاتب عراقي