البنية الفنية في فوتوغرافيا العراقي ناصر عساف

حاول الفنان العراقي ناصر عساف من خلال الأسود والأبيض في معظم صوره، باستثناء البعض، الذي كان اللون فيها قرين الاثنين. وهو مخادع ويعمل على تعميق بلاغة الأسود والأبيض. وهو لون افتراضي. إن بلاغة الأسود والأبيض، أضفت على الصورة بُعدها الميثولوجي، من خلال توازن الضوء والظِل، باعتبارهما أبجدية كاميرته وحروفيتها. وكان التأثر هذا قد وسم كل […]

البنية الفنية في فوتوغرافيا العراقي ناصر عساف

[wpcc-script type=”b88a35c871535a961e389ffa-text/javascript”]

حاول الفنان العراقي ناصر عساف من خلال الأسود والأبيض في معظم صوره، باستثناء البعض، الذي كان اللون فيها قرين الاثنين. وهو مخادع ويعمل على تعميق بلاغة الأسود والأبيض. وهو لون افتراضي.
إن بلاغة الأسود والأبيض، أضفت على الصورة بُعدها الميثولوجي، من خلال توازن الضوء والظِل، باعتبارهما أبجدية كاميرته وحروفيتها. وكان التأثر هذا قد وسم كل الأشياء التي صورها، سواء كانت بشرية، أو طبيعية، فظهرت جميعها بنقاء الطبيعة وما تضمره من جدلية وجودها. فنماذجه مساقة ضمن نسق الحياة، التي يراقبها الفنان كثيرا ً، حتى استوعب خصائصها، فدفع بضوء عين كاميرته نحوها، بقصد الكشف والأرشفة. إن سيادة القدرة على تجسيد الموجودات في الوجود، أخذت بأبسط الوسائل الفنية، إلا أنها لم تغادر الخيال الذي أضفى على الصورة الإمكانيات في التعبير، ولم يغفل سيرة الأشياء وتاريخها، بل اهتم بها، وارتكن إلى طقوسها، متخذا إياها ملاذا يزخر به نتاجه من الصور. إن الفنان نتاج بيئة متمكنة في تنوعها، ونشأة عمقت تجربته وهيأت له مجالات حيوية وظفها لإنتاجه الفني. إذ كان نتاجه بهذا التنوع، يندرج ضمن محاور عديدة، تشعبت فيها الوسائل للتعبير، وتوفرت على ما يغني مشهده الفوتوغرافي، بحيث تأصلت في نتاجه الطريقة التي ميّزته عن أقرانه. إن التنوع دليل البحث عن الهوية الفنية، وكان لبحثه المتواصل المحدد بخوض تجربة الوصول إلى النادر من الأمكنة، والمدهش من البيئات، والاستثنائي من الحالات والنماذج.


فخلال فن البورتريه استطاع ناصر عساف الاقتراب من الإنسان بكل تشكيلاته وأحاسيسه وهمومه المضافة على حياته خارج إرادته، لذا نجده يركز على استخدام تقنية الكاميرا لرصد ما يجده استثنائيا ً ومشيرا إلى مادة تحتوي ظاهرة جدلية الحياة، أي رصد صراع الإنسان مع الواقع من خلال استقراء القسم الأعلى من الجسد. لا شك أن الفنان مولع بالجسد، غير أنه يحاول تجزئته بسبب هالة ما يتعرض إليه. والقسم الأعلى الذي اصطلح عليه تسميته بالبورتريه يحظى باهتمامه المركّز، لأنه يلبي مشغوليته في رصد معاناة الإنسان كما يراه وهو يجوب منعطفات وأزقة المدينة أو المدن الأخرى. لقد كانت الهيئة التي عليها القسم الأعلى من الجسد بما يحمله من ملامح الوجه وقسماته، وحركة النظرات والتأمل وعكس البؤس. كل هذا يؤشر للغة التي تحاول الكاميرا فك رموزها ودلالاتها، فهي تاريخ للنموذج، وسجّل احتوى على ما مرّ به من ظروف، سواء كانت قاسية أو سعيدة. إن الفنان بفعله الفني هذا، إنما يبحث عن المضمر في ملامح الوجه، التي لا تستطيع ــ من وجهة نظره ــ أي لغة تفسيرها. فهو من خلال تسجيل هذا المشهد أو ذاك، ينحو بلغة الكاميرا باتجاه بلاغة لغة الحروف.

استطاع ناصر عساف الاقتراب من الإنسان بكل تشكيلاته وأحاسيسه وهمومه المضافة على حياته خارج إرادته، لذا نجده يركز على استخدام تقنية الكاميرا لرصد ما يجده استثنائيا ً ومشيرا إلى مادة تحتوي ظاهرة جدلية الحياة.

لقد ركز ناصر عساف في هذا الضرب من التناول على الفعل ورد الفعل، الذي يبدو على الملامح التي يلتقطها، التي وصفها بالاستثنائية، أي التركيز على الانعكاس والتأثير الذي تتركه الأزمنة أثناء نحتها على جسد نموذجه، تاركا ً بضع علامات لابد من قراءة ما وراء حراكها الصامت الصائت. فقراءة صورة الفوتو هنا تتطلب الغور في مستوى الظاهرة المؤدية إلى تشكيل هذه الحالات، فالصمت في الصورة، هو سكون مخادع، بمعنى سكون يؤدي إلى حراك بليغ تكشفه القراءة والمراقبة لحيوات الصورة. فبلاغة الصورة هنا كما وجدناها عند فنانين آخرين، في كونها تسرد ما يجري وراء اللقطة، أي تقصّي العلة والمعلول في الظاهرة. فدراسة الصورة فنيا يدفع إلى دراستها نفسيا واجتماعياً، من أجل تحريك سكونها المفترض هذا.
أرى أن ثمة لغة ثالثة تتراصف مع لغة عين الإنسان وعين الكاميرا، وظهر كناتج لكلا الآليتين البشرية والتقنية. وهذا واضح من استقراء الطبيعة التي عليها الوجه، وإحالته بواسطة هذه اللغة الثالثة المنتَجة وفق مستوى المسرود في الصورة. لا شك في أن البنية الفنية، بما فيها ما تنتجه حيثيات عين الإنسان وتقنية عين الكاميرا لهذه اللغة، التي تكون أبجديتها القسمات والأشكال المرتبطة بالزمن كناتج ضغط واستلاب. وهي حيثيات تؤشر إليها الكاميرا عبر بلاغة الأسود والأبيض، والضوء والظِل. فبلاغة الصورة هنا متأتية من بلاغة الأسود والأبيض التي رصدت بنيات الفنان الفكرية ونظرته للوجود والحياة اليومية، وهذا مثلما تطلب التعميم، يبقى بحاجة إلى التخصيص.
في صورة البورتريه تعمل ثنائية الضوء والظِل دورا فنيا في سرد كل الأحاسيس التي يسبر غورها عساف من خلال المرئي ــ الصورة ــ ودواخل النموذج غير المرئي ــ الذات. وبهذا فهو يستعين بكل إمكانيات الكاميرا تقنية ليبلور صورة معبّرة باقتدار عن ظاهر المشهد وخفاياه. فالسكون الظاهر على الوجه لفتاة مثلا، يُسهم الضوء الذي يفيض على كامل الوجه بما يحقق قداسة الضوء باعتباره يعكس روحانية الفتاة وجوّانيتها، وليس شكلها الظاهر. فالوجه هو المعبّر الحقيقي عن كل احتمالات الصراع بكل أشكاله. لكن التطامن الذي تُظهره الصورة على الوجه متوسلة بالضوء تعكس حالة الاستقرار النفسي وليس الاضطراب. أما الظِل فيلعب دورا ً أيضا، ولكن بنسب قليلة، وبما يشكّل حواشي الصورة، وليس معنيا بتشكل بنيتها الجمالية، أي الجمالية الروحية المستقرة مزاجيا. في حين يتخذ من هيئة أحد مبدعي المدينة مثالا ً معبّرا عن حالة التطلع إلى المستقبل، عبر تمركز نظرته وتوحدها في إطار فني. كان الظِل هو المسيطر على الكادر في الصورة، لكنه ليس ظِلا لاغياً لعنصر الضوء، وإنما كاشف لملامح دالة، هي في الأساس تنتمي إلى التأمل الشعري، أما الضوء فهو الآخر يلعب دورا من خلال تخفيف حدة الظِل.

صرامة وجه الفنان كاظم نوير دفعت بفنان الفوتو إلى التعامل مع هذه الصرامة من باب الإبداع.

إذن ثمة تداخل في بنية المؤثرين الأساسيين في الصورة. فالقلة من الضوء تتماهى مع الكثرة من الظِل ضمن إطار فني خدم القصد من اختيار النموذج هذا. فجاء أكثر بلاغة في التعبير. ولعل صرامة وجه الفنان كاظم نوير دفعت بفنان الفوتو إلى التعامل مع هذه الصرامة من باب الإبداع. لذا نجده يهتم بعكس جوّانية الفنان الذي عرفناه حاملاً لرؤى متقدمة ومنفتحة في الفن التشكيلي. وهذا الاهتمام انصّب على آلية إبراز الملامح، وذلك بالاستعانة بكلا المستويين من خلق الصورة، أي الضوء والظِل، فأعطاهما نِسَبا متكافئة للعمل على عكس صورة الفنان. وقد جسّدت هذه النِسّب الفيضية من عين الكاميرا مقدارا أعطى للوجه قدرته على التعبير عن روح الفنان وعمق نظرته للوجود، وبذلك حقق الهدف الذي التقطت الصورة من أجله. تؤازرها صورة أخرى أظهرت ناصر عساف على شكل موديل بكامل هيئته، ولم تبتعد عن القصد ذاته. فالفنان حريص على توجيه كاميرته، بسردية عالية. ولم نجده أيضا ً يفتت آلية كاميرته وتشوفاتها الفنية، وهو يرصد وجه الفنان كامل الموسوي، لكن هذه المرة يركز على الانفعال وليس السكون، فالمعروف عن الفنان الموسوي؛ كونه يحمل ذاتا قلقة، وساخـــرة في الوقت نفسه، غير أن هذا المزاج لا يخفي عمق إبداعه. فهو إلى حد ما يتعامل مع الوجود بمثل ما كان يتعامل الفنان الفرنسي التشكيلي تولوز لوتريك.

٭ ناقد عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *