التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن: أشتغل مفاهيميّاً على اقتفاء أثر بدو الصحراء

الرباط ـ «القدس العربي» : إبراهيم الحَيْسن فنان وناقد تشكيلي مغربي يزاوج بين الممارسة والتنظير، صدرت له مجموعة من الدراسات الفنية منها ثلاثة أبحاث، نالت جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في الشارقة ثلاث مرات، وهي: «أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغربي (2009)، «الهوية.. والسيمولاكر- عن تجربة الأنستليشن العربي» (2010) و«التشكيل العربي المعاصر في ضوء كارتوغرافيا […]

التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن: أشتغل مفاهيميّاً على اقتفاء أثر بدو الصحراء

[wpcc-script type=”d0daaba916e38b982acdb567-text/javascript”]

الرباط ـ «القدس العربي» : إبراهيم الحَيْسن فنان وناقد تشكيلي مغربي يزاوج بين الممارسة والتنظير، صدرت له مجموعة من الدراسات الفنية منها ثلاثة أبحاث، نالت جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي في الشارقة ثلاث مرات، وهي: «أوهام الحداثة في الفن التشكيلي المغربي (2009)، «الهوية.. والسيمولاكر- عن تجربة الأنستليشن العربي» (2010) و«التشكيل العربي المعاصر في ضوء كارتوغرافيا الفن الرَّاهن» (2017). وأصدر مؤخرا كتاباً حول الاستشراق الفني في المغرب، ويعتزم إصدار كتاب حول «الكاريكاتير في المغرب: السخرية على محك الممنوع»، كما يعكف حاليا على التحضير والإعداد لمعرضه «آثار مترحلة» الذي سيقام في رواق محمد الفاسي في الرباط، خلال منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني. بهذه المناسبة، التقيناه، وأجرينا معه الحوار التالي:

■ هل يمكن أن تقرِّب المتلقي من الخصائص الفنية والتعبيرية للوحات المعرض؟
□ امتداداً لمعرضي الفردي السابق الذي أقمته قبل سنتين في المتحف البلدي للتراث الأمازيغي في مدينة أغادير (جنوب المغرب)، فإن اللوحات المقترحة لهذا المعرض تمتح خاصيتها الإبداعية من التراث الثقافي والجمالي في الصحراء، من خلال إيقاع خطوات الإبل ودقات أوتاد الخيمة وحركات الكثبان الرملية وأصوات الرِّياح، وكذا الصبغات البادية في الرداء واللباس التقليدي، لاسيما ملاحف النساء الصحراويات بألوانها الشاعرية البهية والمعبِّرة، فضلاً عن الرموز والعلامات المختزلة والأشكال التجريدية المعتمدة في تنميق المشغولات اليدوية المحلية. ويتضمَّن المعرض قطعاً فنية متنوِّعة (قماشات وورقيات، تركيبات فوتوغرافية، إرساءات ومجسَّمات..) تبحث في دلالة الأثر ومفاوز المادة وتحوُّلاتها البصرية، فرق السند بمقدار اختفائها وانطفائها موشاة بترسُّبات وتطريزات لونية ملمسية تمنحها أبعاداً مرئية متحوِّلة.
■ يُلاحظ توظيفك لمواد وخامات مختلفة مع إدماج ملحوظ للقماش المحلي المصبوغ داخل السند. ما هي المبرِّرات الإبداعية لهذا التوظيف، لاسيما أنه يمتح خصوصيته الجمالية من ثقافة الصحراء؟

 بحكم انتمائي للصحراء، شكلت هذه الأخيرة دائماً بالنسبة لي فضاءً واسعاً مغريّاً، بصَمته وعزلته، وممتداً أستقي منه عناصر التعبير والإبداع.

□ بالفعل، يبدو جليّاً للمتلقي أن مجموعة من اللوحات المرشحة للعرض، تتضمَّن قطعاً قماشية مدمجة مع ورق «الكرافت» في انسجام جمالي مع الأحبار الملوّنة ومسحوق الجوز وصبغات الأكريليك، وهو أمر مقصود بالنظر لجمالية اللباس التقليدي النسائي «ملاحف الصحراء» الذي شكّل بالنسبة لي في هذه التجربة حقلاً دلاليّاً بصريّاً أستعير منه المفردات التعبيرية والرمزية، ذلك أن إعداد هذا الرداء النسائي يقوم بالأساس على تقنيات صباغية خاصة ومتفرِّدة، أبرزها تقنية «الصَّرْ» التي تماثل تقنية تشكيلية عالمية، هي تقنية الباتيك، التي تعني تشميع وتجعيد القماش ووضعه داخل الصباغة (بكيفية التغميس) بشكل عفوي، مثلما ترتبط بفن «الباتشوررك»، أو «القماش المضاف» وهو من الفنون الحديثة كان ظهر في أواخر القرن الماضي، وأول تظاهرة فنية جمعت رواد هذا الاتجاه كانت في منتصف الثمانينيات في بينالي الباتشوورك الذي دعت إليه يورغن أش فينتر، حيث تم عرض الأعمال في متحف النسيج الذي أسسه ماكس بيرك منذ سنة 1978 في مدينة هايدلبرغ الألمانية. وقد تطرَّقت الباحثة الفرنسية ألين توزان المختصة في إبداعات نساء البيظان إلى تقنية مماثلة لما ذكر، تستعملها النسوة الصحراويات اللواتي يحترفن صباغة الملاحف. ثمَّ هناك تقنية التريتيك التي تقوم على استعمال خيوط بشكل متواز ضمن خياطة مؤقتة بغرض ترك بصمات جمالية متنوِّعة تنتج عن صبِّ الأصباغ على القماش المخاط، والمتضمّن لطيَّات وتكميشات صغيرة ذات نتوءات صغيرة تتلاعب فيها الألوان المسكوبة وفق رؤية جمالية وتشكيلية بالغة الرَّوعة.
■ تشتغل مفاهيميّاً على ثيمة الترحال.. كيف يبدو ذلك في هذه التجربة؟
□ ينهض التوظيف التشكيلي لمفهوم الترحال في لوحات المعرض على دلالات كثيرة -حاضرة ومؤجلة – ترسم (بمعنى جمالي ما) نمط العيش السائد لدى رحل الصحراء، والقائم بالأساس على البداوة والتيه والتقشف وتدبير الندرة. نجد هذه الدلالات تتمثل في الآثار المتولدة عن تطبيقات لونية محلية ناتجة عن استعمال خامات صحراوية خالصة، متعاضدة أهمها النيلة والحَمِّيرَة وغيرها من المواد والخامات التي تحيى وتعيش وتتصادم داخل نسق إستتيقي يدعو المتلقي إلى استيعاب سؤال الهوية والخصوصية في الثقافة الصحراوية. في عمق هذه اللوحات تتبدَّى العديد من المفردات البصرية وتنبعث وتتحوَّل في تلاؤم مستمر مع دينامية الترحال التي تميِّز ثقافة الإنسان الصحراوي الذي ترتهن حياته وبقاؤه بديمومة الترحال وضرورته، كما تعبيرهم الشعبي «الحَيْ حَارَكْ، والميِّتْ بَارَكْ».
بمعنى آخر، أن لوحات المعرض تنطق بثقافة بدوية أصيلة مهدَّدة بالاندثار، لكنَّها تظل راسخة في المخيلة والذاكرة الجماعية التي شيَّدها الأسلاف وأسَّسوها على قيم مجتمعية وإنسانية نبيلة وفاضلة، لم تعد اليوم كما كانت بفعل عنف التمُّدن والانخراط في الحياة العصرية، بدون «مقاومة ثقافية» تحمي الفرد والجماعة كل من استلاب محتمل. من هنا تظهر أهمية هذا المعرض التشكيلي التوثيقي المنبثق من رحم موحيات تراثية جمالية شعبية عريقة يستعير منها بدو الصحراء شروط حياتهم وفنهم وإبداعهم.
■ امتداداً لذلك، يحمل المعرض عنوان «آثار مترحلة».. هل من دلالة محدَّدة لهذا العنوان؟
□ منذ سنوات ليست بالقليلة، وأنا أشتغل على مفهوم الأثر كثيمة تشكيلية وكموضوع جمالي مستوحى من ثقافة بدو الصحراء مستعيناً في ذلك بدراسة السمات الأنثروبولوجية والإثنوغرافية لفهم هذا المجتمع العشائري في حدود تفكيره البصري وقدرته على الإنتاج اليدوي. على مستوى التشكيل، وتيمُّناً بقول الناقد الفرنسي بيير فرانكاستيل «إن الفنان هو من يخترع المادة التي يحتاجها لتعابيره»، فإن الأثر يتنوَّع في لوحاتي تبعاً للتقنية الفنية المستعملة والمعتمدة بالأساس على ورق «الكرافت» المعد قبل إدماجه مع القماش الملوَّن بواسطة خلائط من الأحبار ومساحيق الألوان المستمدة من البيئة المحلية، التي تتصادم في ما بينها وتتآلف على إيقاع المحو والحجب والتكثيف في بعض الأحيان. تأسيساً على ذلك، يُمسي الأثر حركيّاً يرفض السكون والاستقرار، كما في عُرف وثقافة بدو الصحراء الذين أدركوا قيمة التِّرحال واعتبروه قوَّة ذاتية تحميهم من الخضوع والخنوع. فهم كلما ترحَّلوا استقروا وحملوا معهم ثقافتهم الشفهية في ذاكرتهم وصدورهم. لذلك، يغدو الأثر مترحَّلاً داخل مفازات الصحراء يرسم حالات المحو والزوال والتلاشي، ذلك أن أثر الرياح على الرمال التي تمنح البدو الرحل قدرات غير طبيعية على ملاحظة الأشياء الدقيقة والتعرُّف على أثر المشي وحالات الماشي من خلال ما يتركه من آثار على الرمل.
■ كثيراً ما شكلت الصحراء مرجعية بصرية لكثير من المبدعين في شتى حقول الفن والأدب. كيف تجعل هذا الفضاء البدوي مصدراً استلهاميّاً لإبداعاتك التشكيلية؟
□ بحكم انتمائي للصحراء، شكلت هذه الأخيرة دائماً بالنسبة لي فضاءً واسعاً مغريّاً، بصَمته وعزلته، وممتداً أستقي منه عناصر التعبير والإبداع، الصحراء كمجال ممتد في المطلق وكثقافة وكتاريخ. يتسع هذا الأمر بفعل استفادتي من الأبحاث والدراسات المتنوِّعة التي أنجزتها طيلة سنوات، وقد همَّت بالخصوص الطقوس والعادات الشعبية وأشكال التواصل الثقافي والرمزي في الصحراء، إلى جانب الأدب الشعبي والتعبيرات الشفاهية التي نجد صداها في هذه التجربة الفنية ولو بطريقة غير مباشرة. إن الصحراء هي بلا شك فضاءٌ جغرافي ضارب في أعماق المدى، ومجال بيئي شاسع يحتضن الإنسان الصحراوي في رحلته الأبدية وسط هبوب الرياح. هي أيضاً متاهاتٌ لا حدود لها، أو هي فضاءٌ سانحٌ لتخضيب الحواس، كما يقول أندريه جيد. ففي الصحراء يحلو الإبداع على إيقاع رخاء الرِّياح وتهادي الإبل في خطواتها بكبرياء مستحق، والشمس الحارقة ترسل أشعة العطش التي لا ترتوي.

لقد لخص الفن البيئي التدخل البشري على الفضاءات الطبيعية في شكل تمظهرات جمالية سارع الفنانون فيها إلى الخروج من الورشة للعمل في الأماكن الطبيعية المفتوحة.

■ ولكن الصحراء قد تتجاوز كونها فضاء للتأمُّل والاستلهام لتصير مكوِّناً للإبداع وحاضناً ماديّاً له؟
□ بكل تأكيد، الدليل على ذلك أن كثيراً من الفنانين العالميين اشتغلوا على الصحارى وجعلوا منها مادة للتشكيل الفني والجمالي، من خلال الاشتغال المباشر لخاماتها ومكوِّناتها البيئية وجعلوها في صلب العملية الإبداعية. لقد نما هذا التوظيف التعبيري وشاع وتأسس مع مجموعة من المبدعين المرموقين الذي أضحوا لاحقاً رواد من يُعرف باسم «فن الأرض» المعروف أيضاً بـ«فن الصحراء» و«فن البيئة» وهو تيار فني معاصر يعتمد الإبداع فيه على المقابلة المباشرة مع الطبيعة والاندماج الكلي بها عبر التعامل بشكل مباشر مع المواد والخامات الأساسية التي تكوِّنها، كالتراب والحجر والنار والرياح.. إلخ. لقد لخص هذا الفن البيئي التدخل البشري على الفضاءات الطبيعية في شكل تمظهرات جمالية سارع الفنانون فيها إلى الخروج من الورشة للعمل في الأماكن الطبيعية المفتوحة. هكذا ظهر فن الأرض وبرز كفن حديث حين سعى بعض الفنانين إلى نقل أعمالهم من صالات العرض إلى أحضان الطبيعة والقيام بالتالي بإبداعات مباشرة وحقيقية مع الأرض، باعتماد مختلف الخامات والمواد الطبيعية الموجودة في مواقعها، إلى جانب الوسائط التعبيرية الأخرى كالخرائط والصور الفوتوغرافية والدلائل وأشرطة الفيديو. مثال على ذلك، أعمال الفنان الأمريكي مايكل هيزر الذي ينشئ حفراً مستطيلة ويضع فيها مرايا لعكس صور وأحجام الصخور المحفورة والمنحوتة، كما كان يفعل في سلفر سبرنج في صحراء نيفادا سنة 1969، إضافة إلى الفنان الأمريكي روبيرت سميثسون الذي يشتغل على مساحات أرضية واسعة، وهو صاحب «بحيرة الملح العظمى»، وهي في شكل حلزوني يخترق إحدى البحيرات في الولايات المتحدة، وهذا الفنان قام خلال السنة المذكورة بعرض عمل بيئي في غاليري جون وير (نيويورك) مكوَّن من أحجار التقطها بشكل عشوائي إلى جانب تربة وضعها في ركن صالة العرض على أرضية بيضاء أو رمادية مربعة. وفي الأركان ثبت مرايا تعكس صورا للأحجار الحقيقية. وقد وصل «فن الأرض» قمَّة الإبداع مع فنانين آخرين أمثال رافائيل تيريس الذي يشتغل على الجليد، والفنان كريستو من خلال تسجيل نشاطاته الفنية في صور فوتوغرافية معبِّرة عن التداخل بين اللوحة والطبيعة، وأيضاً الفنان جيم دينيفان الذي ينجز رسومات ضخمة على الرمال بشكل لا يُمكن مشاهدته كاملاً إلاَّ من الطائرة، وقد اشتغل كثيراً على شواطئ كاليفورنيا التي حوَّلها إلى معارض عملاقة مفتوحة. ثمَّ هناك الفنانة الفرنسية المعاصرة إليس مورن التي تستغل أعداداً وافرة من الأسطوانات المدمجة القديمة وتحويلها إلى بحر ثابت من الرمال المعدنية، فضلاً عن الفنان الأمريكي ستان هيرد المشهور بنقش لوحاته على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *