أعمال فنية تعيد الألوان إلى فندق صوفر التاريخي في لبنان
[wpcc-script type=”c24c2454b1682ef3fc5012c9-text/javascript”]

كان زائرو فندق صوفر الكبير كثيرين في 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهو اليوم الأخير من المهلة التي أعاد فيها فتح أبوابه. هناك عند صفحة التعريف الكبيرة، قريبا من مدخله، كانوا يتوقفون لقراءة ما أسموه لبعضهم البعض تاريخ الفندق. الكثيرون منهم لم ينالوا حظّ مشاهدته إلا من الخارج، رابضا هناك في ما تبقى من أبهته. كان قد أقفل في 1975، حيث لم يكن هؤلاء قد ولدوا بعد. وكان هذا قد شغلني في ما أنا أجول بينهم في طبقته الأرضية، متبينا من منهم تخطى عمر الثالثة والأربعين، وهو عمر إغلاقه، ومن منهم ولد بعدها. وهناك، من إحدى الغرف، كان يطلع صوت تسجيل لامرأة تتحدّث عن نجوم كانوا هنا. كانت قد وقفت قليلا عند الفنانة صباح حين التفتنا إلى التلفزيون الذي رأيت المتحدثة على شاشته. كانت، حسب ما قدّرت، في عمر الستين. كان ينبغي لهم أن يأتوا بمن هي، أو من هو، أكبر عمرا، إذ ماذا أتيح لهذه السيدة أن تعرف مما كان قد جرى في العصر الذهبي للفندق.
وما هو معروض من بقايا الأثاث ليس أكثر من حطام قليل. في المطبخ عُرضت فناجين وصحون وأدوات مطبخ قليلة تعود إلى ذلك الزمن، كما بقايا مصعد بدائيّ المواد كان ينقل الطعام إلى الطوابق الأربعة ليتوزّع من هناك على غرفها الخمس والسبعين. ثم هناك لوحة تعلقت على الحائط المتفسّخ تنقل الطهاة الذين عملوا هنا، وقد حفظت هيئاتهم، ببرانسهم البيضاء، صورة فوتوغرافية كنا شاهدناها في مكان آخر، على شاشة التلفزيون ربما.
بين تلك البقايا أيضا بيانو لم يعد صالحا منه للرؤية إلا بقايا ممزّقة، بما يذكّر قليلا بأن هذه لا بد أنها لوحة مفاتيحه. وفي غرفة قريبة وُضع دولاب الروليت، خاليا تماما من أرقامه وألوانه حتى بدا مجرد قطعة مستديرة من خشب. هناك راح يتعجب المتفرجون كيف مرّ الزمن مضاعفا هنا، أو عنيفا، إذ لم يكن لهذه السنوات، على رغم كثرتها، أن تفعل كل هذا الذي فعلته.
وفي غرفة قريبة وُضع دولاب الروليت، خاليا تماما من أرقامه وألوانه حتى بدا مجرد قطعة مستديرة من خشب.
لكن الفنان البريطاني توم يونغ، الذي واكبت رسومه فترة فتح الفندق أبوابه أمام زائريه، أعاد إحياء سهرة سابقة تحلّق فيما لاعبون حول الروليت وقت كان الفندق يستقبل لاعبين من بلدان الشرق الأوسط كله. أما لوحة الفنان التي تمثل عمر الشريف فنقلت إلى مكان آخر، وهذا ما جعلنا نتساءل إن كان النجم المعروف بتعلّقه بهواية البريدج وألعاب أخرى لا يستسيغ الروليت. لكن الراديو القديم، الموضوع في غرفة صغيرة، كان ما زال يعمل، إذ وضع في داخل هيكله مسجل تنبعث منه أغان لفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد، وآخرين بينهم محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، حسب ما قرأنا عن زوار الفندق ونزلائه، أو عمن أحيوا سهرات فيه. وبين اللوحات المتعلّقة على كافة جدران الطبقة الأولى تلك كانت واحدة صغيرة لأمين الريحاني مرفقة بتعريف مستفيض أضيف إليه نصّ كتبه الريحاني (ربما اقتطف من كتابه «قلب لبنان»، يصف فيه فخامة الفندق).
وفي ذاك التعريف أيضا وصفٌ لتفاصيل حادثة طُلب من الريحاني فيها أن يبقى خارج الفندق لأنه لم يكن يرتدي الثياب المفروضة على الساهرين، لكن على أي حال، لم تطل إقامة الريحاني في الخارج، هناك عند البوابة، أو في الحديقة الملحقة بالفندق، إذ سريعا ما هرع نحوه مالكه إبراهيم سرسق ليُدخله محتفلا به، رغم ما يرتديه.
كان القادمون لمشاهدة الفندق كثيرين إذن في يوم افتتاحه الأخير، لم يشاهدوا أشياء كثيرة، فالطبقات العليا من المبنى لم تكن قد فتحت أمامهم، ربما بسبب الدرج الذي حال تساقط بعضه دون الارتقاء إليها. لكن لوحات توم يونغ، المعروضة في الأرجاء كلها نقلت إليهم مشاهد ذلك الماضي، قريبة مما كانت تحفظه مخيلاتهم عن زمن لبنان. ذاك أنهم هكذا، على صورة ما تنقله اللوحات، يتخيلون لبنان ما قبل 1975، بل لبنان ما قبل ذلك، وربما يظنّون أنه لا بد سيظهر أكثر جمالا كلما رجعنا به إلى الوراء، أي إلى ثلاثة عقود أو أربعة سبقت السبعينيات.
هكذا يتخيّلون الماضي، ساهرات وساهرين يرتدون أكثر الثياب أناقة رسمهم يونغ وهم يؤدون عيشهم كما تؤدى رقصات ذلك الزمن. أولئك الذين قدموا لرؤية الفندق من داخله تشاركوا في تذكّر الماضي، بصرف النظر عن منابتهم الاجتماعية المختلفة.
بقايا قليلة من ماضي فندق صوفر الكبير، بدت كافية لهم ليطابقوا بينها وبين ما انتقل إليهم مما كتب في وصف لبنان السابق. فرغم ذلك القليل المتاح سمعنا مجموعة كانت في طريق خروجها تتساءل إن كان الزمن سيتيح لها أن تعيش، هنا في بلدها، مجدا مماثلا. وهذا ما سارع هؤلاء، هم أنفسهم، إلى رفضه ونفيه قائلين إن الزمن لن يرجع إلى الوراء أبدا.
٭ روائي لبناني