اليمني حكيم العاقل في معرض «تعويذةٌ للأرض»: عقلنة الواقع بالمتخيل

يمثل المعرض الشخصي الـ(13) للتشكيلي اليمني حكيم العاقل (1965) الذي افتتحه في غاليري عكاس في المنامة مؤخرا، خطوة متقدمة ضمن مرحلة متطورة (تقنيا ورؤيويا) تعيشها تجربته منذ بضع سنين… فإن كان هذا المعرض يُعد امتدادا تقنيا لمعارضة الأخيرة إلا أنه عكَسَ، بوضوح، تطورا رؤيويا في علاقة الفنان باللوحة/ الفكرة؛ ليقدم في معــرض (تعويــذةٌ للأرض) «رؤية […]

اليمني حكيم العاقل في معرض «تعويذةٌ للأرض»: عقلنة الواقع بالمتخيل

[wpcc-script type=”d64c3414529c2daeb8ba59b8-text/javascript”]

يمثل المعرض الشخصي الـ(13) للتشكيلي اليمني حكيم العاقل (1965) الذي افتتحه في غاليري عكاس في المنامة مؤخرا، خطوة متقدمة ضمن مرحلة متطورة (تقنيا ورؤيويا) تعيشها تجربته منذ بضع سنين… فإن كان هذا المعرض يُعد امتدادا تقنيا لمعارضة الأخيرة إلا أنه عكَسَ، بوضوح، تطورا رؤيويا في علاقة الفنان باللوحة/ الفكرة؛ ليقدم في معــرض (تعويــذةٌ للأرض) «رؤية اســتدراجية للمــكان بتفاصيــل يمتــزج فيــه الخيــال والفكــر بصــورة تعبيرية ورؤيــة لونيــة، وتكوينــات غرائبيــة تمتــزج مــع بقيــة العنــاصر المكونــة للوحــة».
بلا شك أن هذا المعرض يُمثل خلاصة معارض سابقة اشتغل فيها الفنان بمستويات دلالية على المكان في علاقته بالكائن، إلا أنه قدم في هذا المعرض مستوى جديدا من المزج بين الفكر والخيال، في الاشتغال على الذاكرة الحسية للمكان، تعبيرا عن أُمنية الفنان في أن تظل الأرض سالمة ويتعايش الناس بمحبة وسلام… ليأتي هذا المعرض كأنه (تعويذة) من صاحبه لتحقيق تلك الأمنية الإنسانية.. وكما يؤكد حكيم فهذا المعرض «يشــكل حصيلــة تجربــة طويلــة مــن التفكــر بمفــردات مختلفــة، ودمجهــا ضمــن هــدف تأكيــدي للكــون الــذي يكــون الرافعــة الأولى للحيــاة والجمــال بعيــدا عــن الجــدل وقريبــا للوجــدان الممتلئ بالمشــاعر».
يُحيلنا اسم المعرض «تعويذةٌ للأرض» إلى ما يريد أن يقودنا إليه الفنان في معرضه هذا، كما يؤشر الاسم، في الحال نفسه، إلى وما وصل إليه التعبير/ الفكر في علاقة اللوحة بالموضوع وقبل ذلك بالرؤية؛ فثمة بُعد تأملي تُشير إليه كلمة (تعويذة) بعد أن تمت عقلنتها وتخصيصها للأرض؛ فتغيرتْ الدلالة؛ فالتعويذة التي ترتبط، في الخيال العام، بقوى ما وراء الطبيعة، جردها الفنان من معناها القريب ومنحها معنى جديدا، وأعاد استخدامها تعبيرا مجازيا لرؤيته تجاه ما يريد أن تكون عليه الأرض «باعتبارها الوعاء المكاني للإنسان» وانطلاقا من ذلك، يؤكد هذا المعرض على العلاقة المتداخلة بين الإنسان والمحيط، وما تستدعيه هذه العلاقة من تناغم، ولعل لوحات هذا المعرض تُمثل تجليا من تجليات التناغم الجمالي بين الكائن والمكان، وهو ما يعكسه حكيم في علاقته الخاصة بالبيئة المحلية في لوحته، هذه اللوحة التي هي نتاج حوار مستمر بين تراكمات تجربته الفنية ومخزون ذاكرته، بما فيها من ذكريات وأحلام ومشاهدات يتجلى عنها ما يرسمه من تكوينات يعبر بواسطتها عن رؤى، وتبقى اليمن كمكون ثقافي فاعل ومؤثر في تشكيل موضوعات لوحاته التي تعكس المستوى الذي وصلت إليه تجربته الفنية في الوقت ذاته. فعلى الرغم من المنظور الواقعي في أعمال هذا الفنان، إلا أن المتخيل يحضر كبطل ضمن سردية (تعقلن) الواقع في لوحة تحفل بتجريد لوني يتقدم بواسطته اللون على ما سواه، ضمن منوال تعبيري حداثوي يعكس رؤية وتجربة واعية بالفن والحياة… وهو المستوى الذي يتبدى أكثر وضوحا في هذا المعرض؛ فالرؤية أشمل والمنظر أوسع والاشتغال على التفاصيل يؤشر لأبعاد كثيرة مختلفة عما تشي به السطوح… لوحات تنفتح على حكايات محورها الدلالات التي يتبلور فيها خطاب اللوحة مع المتلقي، وهو خطاب ليس له محددات أو مسارات واضحة، لكنه مفتوح على العمق.

يمنح حكيم ألوانه طاقات تعبيرية هائلة، ويمارس من خلالها تجريدا واعيا لواقعية منظوره، الذي يأتي محتشدا بتكوينات وتفاصيل ومعمارية من الرموز والإشارات.

الاشتغال على ألوان الأكريلك كان مكثفا، وكعادته يمنح حكيم ألوانه طاقات تعبيرية هائلة، ويمارس من خلالها تجريدا واعيا لواقعية منظوره، الذي يأتي محتشدا بتكوينات وتفاصيل ومعمارية من الرموز والإشارات لا تغلق اللوحة بقدر ما تفتحها نحو مفاهيم، وأبعاد تحمل معها كل لوحة حكاية وقراءات… وهنا وفي لوحات هذا المعرض ارتفع منسوب (السردية)، وأصبحت الرؤية أكثر إنسانية في التعبير عن الفكر والموقف، لتتجلى اللوحة خطابا فنيا ذهنيا جماليا في آن؛ ولعل هذا هو الجديد في رؤية الفنان هنا؛ ويعكسه ذلك المستوى من التداخل في السطوح والتكوينات والاحتشاد المدروس للتفاصيل وتنوع الثيمات، خاصة في مجموعة اللوحات المتوالية لحكاية المرأة والأرض، التي تبدو كأنها فصول من حكاية واحدة… وهذا التوحد الموضوعي ليس جديدا في تجربة هذا الفنان مع الموضوع الواحد لكل معرض من معارضه، لكنه تطَورَ في هذا المعرض، وفي هذه المجموعة منه تحديدا لتصبح المتوالية أكبر في رؤيتها وأوسع في تعبيريتها… فالأرض تشكل خلفية هذه اللوحات من خلال ذلك التدوير الكروي البعيد، فيما تأتي المناظر الطبيعية عبر سطوح حافلة بتنوع تكويني جمالي زاخر بالدلالة والإشارة، وتتجلى المرأة مركزا للنص البصري الذي يُعيد قراءة علاقة الكائن (الإنسان) بالمكان (الأرض)… وفي هذه اللوحات المتوالية يَبرز مستوى من مستويات اشتغال الفنان على توظيف المرأة، التي لم تأت ساكنة هذه المرة، بالإضافة إلى تكثيف جديد للون، ضمن تجريد مختلف ومفعم بالدلالات والرموز، في سياق جغرافية (منظور كبير) غني بالتفاصيل المحلية التي اشتغل عليها الفنان بعناية، وهذا ليس بغريب؛ فالفنان نال الماجستير في فن الجداريات، من «أكاديمية الدولة سوريكوف» في موسكو.. ولهذا لا نندهش من قدرته على ضبط إيقاع التكوينات والتفاصيل في لوحات كبيرة، كما في لوحة المرأة المستلقية على بيئة عشبية خضراء في وادٍ ممتد بتضاريسه وتفاصيله، التي جسدها الفنان في مستوى من مستويات التجريد اللوني، بدون أن تفقد الأشكال والمسافات انسجامها، خاصة ما بين بيئة المكان وهيئة المرأة وحال الغزال وهالة الضوء التي تحضر في هذه اللوحات، التي تتجلى فيها السردية اللونية، كأهم مفاعيل التجريد والتعبير في آن… إنها لوحات تحتاج لمستويات فكرية تأملية من المشاهدة التي تُعيد قراءة الحكاية/ التعويذة.
المجموعة الثانية من لوحات هذا المعرض اشتغل فيها الفنان على المناظر الداخلية في البيت؛ فتجاوز الجدران واقتنص (من أعلى) لقطات تعكس مستوى آخر من مستويات علاقة الإنسان بالمكان، من خلال ما تمنحه لها المرأة، التي استحضرها الفنان هنا مع الرجل، مع الإبقاء عليها مركزا سرديا للعمل الفني… وقد تجاوز الفنان في هذه اللوحات، التصوير الجسدي لمشاهد المرأة، أو لمشاهدها مع الرجل، مشتغلا على التعبيرية اللونية التي تحيل الوعي باللوحة إلى الدلالات الإنسانية والوجودية الجمالية.
كما اشتمل المعرض على لوحات لمناظر طبيعية كان فيها المكان بطلا سرديا، بما فيها تلك اللوحات التي اشتغل فيها الفنان على منظر البحر والقوارب والشاطئ، حيث استطاع أن يقتنص مشهدا متخيلا في نص بصري، وكم كان الفنان ماهرا في ضبط المنظور برؤية (من أعلى) عبر نسيج لوني انتظمت تكويناته بدقة، وهنا اختلفت كل لوحة من لوحات هذا المنظر بحسب زاوية ومسافة الرؤية العلوية… يقول حكيم: «يحمل البحر بعين الطائر جمالية مضاعفة في الرؤية والمنظور الرأسي غير النمطي غير المسقط في مشاهد متخيلة لشواطئ وأمواج وقوارب وبشر، في حالة من التناغم اللوني وعمق تصويري معرفي في تركيب و(تنغيم) للأشكال، بحيث تصبح الحالة التعبيرية قريبة إلى الوجدان بمنظور ابتكاري يؤكد الجمالية المضاعفة للمكان».
معظم لوحات هذا المعرض اعتمد فيها الفنان على رؤية (عين الطائر) إلا أن المعرض اشتمل، أيضا، على لوحات برؤية عادية، ولعله أراد منها، ربما أن يمنح المتلقي فرصة المقارنة ليستطيع استيعاب خصوصية كل منها في علاقته بالفكرة/ الرؤية.
تمثل هذه الأعمال مرحلة متقدمة من الاشتغال الفكري على رؤية إنسانية، سبق أن اشتغل عليها الفنان، خاصة في المعرض السابق «الحرب والسلام» صنعاء عام 2016، الذي تتبع مشاعر الخوف والفزع وغيرها من المشاعر الإنسانية الناتجة عن أهوال الحرب في بلاده واهمية السلام؛ لتأتي لوحات هذا المعرض، التي أنجزها في بلاده وتحت القصف أيضا، امتدادا لتجربته الفنية، وتطويرا لرؤيته الجمالية/الفكرية على صعيد العلاقة بالمكان، وتعبيرا عن حاجة الأرض إلى أن نتعايش بسلام.

٭ كاتب يمني

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *