هي السيدة… لساعة واحدة فقط

كانت القاعة غاصّة بأولئك الذين قدموا لمشاهدة صور المعرض. وكما يحصل عادة توزّع حضورنا بين تبادل التحيات مع من نعرفه منهم، وعلى استراق النظر إلى ما تعلّق على الجدران. ثم لنضف إلى ذلك التوزّع، دخول سرب العاملات المنزليات، هكذا بما بدا اختراقا ثانيا لما نعرفه عن طبيعة المكان وأنواع رواده. كنّ قد أتين ليشاركن في […]

هي السيدة… لساعة واحدة فقط

[wpcc-script type=”422c807a903d91334a58c238-text/javascript”]

كانت القاعة غاصّة بأولئك الذين قدموا لمشاهدة صور المعرض. وكما يحصل عادة توزّع حضورنا بين تبادل التحيات مع من نعرفه منهم، وعلى استراق النظر إلى ما تعلّق على الجدران. ثم لنضف إلى ذلك التوزّع، دخول سرب العاملات المنزليات، هكذا بما بدا اختراقا ثانيا لما نعرفه عن طبيعة المكان وأنواع رواده. كنّ قد أتين ليشاركن في الافتتاح، لمشاهدة الصور لكن أيضا لكي يُشاهَدن هن أنفسهن. بَدوْنَ يذكّرن بتلك الفواصل التلفزيونية التي يُصطاد بها نجوم السينما قبل دخولهم إلى حفل الأوسكار. ذاك أن هؤلاء العاملات المنزليات نجمات أيضا، فصورهنّ، متزينات بما يخالف ما اعتدن الظهور به، سبقت وصولهن إلى هنا. لكنهن لم يُطلن المكوث على أي حال. لا أكثر من عشر دقائق مثلا استغرقناها، نحن الذين كنا هناك، بمحاولة أن نماهي بينهن وبين الصور، بأن نردّ كل واحدة منهن إلى صورتها.

هي أزمنة كثيرة أعدْن رسمها بصورهنّ وليس فقط زمننا الأخير هذا. إحدى «البنات» (كما في واحدة من التسميات التي يُجمعْن بها)، جلست كإحدى أميرات الجبل في القرن الثامن عشر.

كما أن ذلك الوقت القليل لم يُتِح لنا أن نجري ذلك التدقيق الثاني، بعد التدقيق السريع الأول، وهو إلى أي حدّ وُفّقن في الاندماج مع الهيئات التي اتخذنها، أو قلّدنها، مبتعدات كثيرا عما نعرفه منهنّ أو نتصوره عنهن.

في الصور التي وزعتهن بينها شذا شرف الدين كان عليهن أن يكنّ غير ما هنّ. لقد قفزن إلى المكان النقيض ليكن فيه، هكذا بما يشبه الاحتلال الذي يقلب الموازين، أو هي ثورة، متوهَّمة طبعا لكنها، وإن حدثت هكذا تمثيليا، إلا أن شيئا سيتحقق من جرّائها، لا بدّ.


أولئك العاملات المنزليات جلسن على مقاعد مخدوماتهن، ارتدين أزياءهن، تصرفن بأثاثهن وغزونهن في الأمكنة التي كان عليهن الخروج منها فور الانتهاء من كنسها وتنظيفها، ثم إنهن تسللن إلى مكاتب «ماداماتهن» ورحن يتخذن السمت نفسه، الجدّي والمتأنّق، بين الأدوات المكتبية القليلة، التي تختلف عن تلك التي يستخدمنها في شغلهن. وفي صور لهن أخرى بدون موسعات ذلك الإحلال بأن رجعن في التاريخ إلى الوراء، بادئات من الماضي، لينتقلن من هناك إلى الحاضر المتنوّع، ذلك من أجل أن يقلبن الأدوار كلها، على ما فعلت المرأتان تلمل ولوين في فيلمهما حيث لم تواجها رجلا واحدا، بل الرجال كلهم بمختلف أشكالهم وأزيائهم.
هي أزمنة كثيرة أعدْن رسمها بصورهنّ وليس فقط زمننا الأخير هذا. إحدى «البنات» (كما في واحدة من التسميات التي يُجمعْن بها)، جلست كإحدى أميرات الجبل في القرن الثامن عشر. «بنت» أخرى تركت للأرجيلة أن تعيّن الزمن الذي هي فيه، فارتاحت على الأرائك بما لا يشبه أبدا تلك الفكرة التي تقفز سريعا إلى الرأس، وهي أن هذه الخادمة استغلت غياب سيدتها عن البيت، وها هي تجرب الاستمتاع بما كانت تنشغل بإبقائه جاهزا لسواها. وها هي فتاة فيرمير تعود ثانية، لكن سوداء هذه المرّة، بالتزيي ذاته وباللؤلؤة التي تشعّ بسطوع أقوى، وبالنظرة المتجرئة كأنها تحدق في عمق عيني رائيها. ذلك التحويل لفتاة فيرمير متجرّئ بكسره القداسة الراسخة لما هو خالد في ذاكرة الفن، أو في تاريخه. ذلك يقرب من أن نضع في مكان الإله رجلا غيره.


أولئك الممثلات، القافزات بالوهم إلى السلطة التي هنّ خدمها، خرجن سريعا من قاعة المعرض تاركات صورهنّ وحدها لتمثّلهن. بدا خروجهن أشبه بالرجوع إلى الكواليس، ثم خروج من هناك إلى حيث لا نعلم كيف سيكن هناك، في تلك البيوت التي يعملن فيها. تلك التي أُخذت اللقطة لها من الأعلى رفيعة الحاجبين وغاطسة في حضورها الأنثوي كواحدة من نجمات سينما الخمسينيات أو الستينيات، ماذا ستفعل بهذا الدور المقتصر على لقطة واحدة. كيف ستنازعه أو ينازعها بعد النزول عنه. إلى أي حد سيظل معوّضا لها ترجع إليه كلما احتاجت إلى تخيّل نفسها وهي فيه. ثم تلك الأخرى التي تظهر في هيئة سيدة المكتب، أو مديرته، أو صاحبته، لقد أدت الدور تماما كما ينبغي. ليس هناك من خطأ واحد، لذلك هل يرضيها الاحتفال بحسن التأدية فقط، أم أن ذلك يدعوها إلى طموح لن تعرف كيف تعيش من بعده.
أما عنا، نحن زوار المعرض، فمحتارون على أي محمل نحمل ما شاهدنا. هل نرى في ذلك لعبا، أو فانتازيا كما في بيان التقديم؟ أم تجرؤا على قلب الأشياء بجعل أعاليها أسافلها، أم مجرد استخفاف مرح بالقواعد التي يتعيّن على أساسها الفارق بين الخادم والمخدوم؟
على مدى شهر كامل، من 11 أكتوبر/تشرين الأول إلى 10 نوفمبر/تشرين الثاني تعرض كاليري أجيال في بيروت أعمالا فنية مصورة لشذا شرف الدين تقع جميعها في نطاق استبدال الأدوار بين سيدة المنزل وخادمتها، حيث تحل الأخيرة، مظهريا وفانتازيا، محل الأولى. لعنوان المعرض جمعت شرف الدين هؤلاء وأولئك في كلمة واحدة هي Maidam.

٭ روائي لبناني

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *