شريط تشارلي كوفمان: «إشراقة العقل الأبدية» عن مصير الأخطاء واليقين في إيمان أبدي بالوجود
[wpcc-script type=”75bec10c25b26d6f67e7ed86-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: «خبئني في منطقة الخجل لديك، فهناك لن يستطيع أحد أن يُمحني من ذاكرتك». هذه العبارة تكمن فيها الفكرة الأساسية لفيلم «إشراقة العقل الأبدية» الذي كتبه تشارلي كوفمان ونال عنه أوسكار أفضل سيناريو في العام 2005. الفيلم من إخراج ميشيل غوندري، وبطولة جيم كاري وكيت وينسلت. كعادة كوفمان تثير أعماله الكثير من الأسئلة حول تفاصيل الحياة الصغيرة، التي تصبح بعد مشاهدتها أكثر ثقلاً وعمقاً عن المعتاد. ففي أعمال مثل «أن تكون جون مالكوفيتش» و»الطبيعة الإنسانية» و»اعترافات عقل خطير» تبدو البدهيات أكثر إلغازاً، ولابد من إعادة التفكير في كل ما هو اعتيادي وطبيعي كما يبدو من بعيد. في «إشراقة العقل الأبدية» يتعرّض كوفمان لمناقشة مفهوم وطبيعة (الحب)، لكن الأمر لم يكن في بساطة حكاية رومانتيكية، بل تبدو القسوة في أقصى صورها، الأمر وجودي في الأساس، ويصبح التهديد أو الفناء قريباً جداً من شخصيات كانت تظن أنها تعرف بعضها البعض ــ متواجدة بالفعل ومتحققة من خلال بعضها البعض ــ وبالتالي يثور التساؤل عن تاريخ الإنسان وذكرياته ــ مهما كانت مؤلمة ــ كيف سيكون بدونها؟ وهل لو انمحت بآلامها سيستطيع الإنسان الحياة من جديد، أم أنه سيشعر مثل كليمنتاين/كيت وينسلت بالتقدّم في العمر؟ وهل كان إصرار جويل/جيم كاري على الاحتفاظ بذكرى وحيدة فـقــط، هو إصـــرار على تــدارك خطأ محو الذكـــريات، وفي النهاية الوصول إلى يقين في إيــمــان أبدي بالمصير نفسه، مهما اختلفت التفاصيل وتعددت الحكايات؟
ضحايا عيد الحب
اليوم مناسب تماماً لاستحضار تفاصيل المأساة ــ التفاصيل التي ننجذب نحوها ونقدسها، دون الشك لحظة بكونها ستصبح ذكرى ــ فالعشاق في كل مكان يتبادلون التذكارات، لكن هنا، في عيادة الطبيب النفسي، فالعاشق الخائب يحمل صليبه، الذي هو عبارة عن تذكارات بسيطة تذكّره بالطرف الآخر، ويطلب من الطبيب إجراء عملية محو الذكريات المؤلمة ــ ما كان يُبهج أمس هو الآن مصدر الألم ــ حتى يستعيد العاشق حياته من جديد، وكأن الآخر لم يكن على الإطلاق. وفي عيد الحب تكثر حالات طلب فقد الذكريات. ليتحول عيد الحب إلى مناسبة طقسية بالمفهوم المخالف للاحتفال، فعيادة الطبيب عبارة عن مأتم كبير ــ أشباه هذه الحالات عالجها رولان بارت في مؤلفه «شذرات من خطاب في العشق» فالمأتم والتأسي في كل مكان حول العاشق المهجور.
كليمنتاين وجويل
رغم الفارق بين شخصية كل منهما، فهي قلقة ومتوترة وتثير الصخب الدائم، بينما هو الأكثر رتابة وهدوءا، وبالمصادفة المُبهمة ــ العصية على التفسير ــ يقع كل منهما في حب الآخر. ولكن لاختلاف الطباع، تقرر كليمنتاين ترك جويل، بل وتمحوه من ذاكرتها تماماً، بحيث إنها إذ رأته لا تعرفه. وإن كانت فعلت، فهو قام برد الفعل، بأن يمحو بدوره ذكرياتها من عقله، أملاً في التخلص من ألم هذه الذكريات. لكن جويل يعلم تماماً ــ وهو دون وعي ــ أن ما يفعله سوف يقضي عليه، وسيجعله شخصاً آخر، ليصل الأمر أنه ليس فقط سينسى الفتاة، بل سينسى نفسه وتاريخه، وبالتالي وجوده. هنا يتشبث جويل بذكرى وحيدة لكليمنتاين، فقط ذكرى تجعله هو، وتجعلها هي في الوقت نفسه.
العود الأبدي
الفكرة التي نادى بها نيتشه، وافتتح بها ميلان كونديرا رواية «كائن لا تُحتمل خفته» ربما هي نفسها التي انتهجها تشارلي كوفمان في «إشراقة العقل الأبدية». فأي من التفاصيل على اختلافها، أو محاولات تجاوزها وتصحيح الأخطاء التي تضربها، فالمصير معروف سلفاً، وما علاقة جويل بكليمنتاين سوى صورة أكثر هدوءاً من علاقة تريزا بتوماس بطلا كونديرا، تريزا التي تعاني من أجساد النساء وروائحهن التي تجدها على جسد توماس كل ليلة، وتبكي في أحلامها وهلوساتها من جرّاء ذلك، تدرك جيداً أنها احتلت ذاكرة توماس إلى الأبد، ربما هذا ما جعلها تتسامح ونفسها قبل كل شيء، وبالتالي تتقبل توماس. لكن كوفمان يضع التاريخ أمام الذات، فمهما كان مؤلماً فضياعه أو محاولة نسيانه يفقد الذات وجودها ومعناها. فطن جويل إلى هذه المأساة، فالتعايش مع آلامه أكثر صدقاً من النسيان، ويبدو التساؤل مَن المفقود هنا؟ هو أم هي؟ الأمر أعمق من أحداث وتذكارات ولقاءات متواترة، الأمر مرهون بالحياة.
الاختباء في منطقة الخجل
لماذا نجح جويل في الاحتفاظ بكليمنتاين؟ هنا يكتشف كوفمان الحل الأصعب، وهو أن يأخذ جويل كليمنتاين إلى أشياء يخجل أن يتذكرها حتى بينه وبين نفسه، لتشهد خجله من نفسه، هنا لا يستطيع جهاز الطبيب الذي لا يرحم أن يقترب من الفتاة، وقد هربت إلى طفولة جويل، وكيف أن طفلاً أوسعه ضرباً أمام طفلة يحبها، ولطالما خجل من عاره هذا وود نسيانه على الدوام، لتقف شاهدة على ما يحدث، فيتعطل جهاز محو الذكريات، ويبدو استغراب مساعد الطبيب ــ الذي بدوره اطلع على ذكريات كليمنتاين وأوهمها بحبه لها، وقد استغل ذكرياتها السابقة مع جويل ــ فما نخجل منه ونود نسيانه هو أفضل مكان للاحتفاظ بالآخر، أو جعل الآخر حياً بمعنى أدق.
البدء من جديد
بعد اليقين في إيمان أبدي بالمصير المشترك ذاته، وكل منهما يقرأ ملفاته السرية، التي سرّبتها عشيقة الطبيب ــ والتي عادت إليه بدورها في النهاية مرّة أخرى، بعدما نجح في محو ذكرياتها، وكأنها تنويعة أخرى على الحالة الأساسية لبطلي الحكاية ــ يحاول جويل إقناع كليمنتاين في بداية جديدة، وقد عرف كل منهما تفاصيل العلاقة/الحياة السابقة بينهما، لكنها لا تتذكر، ولا تريد أن تتذكر ــ على العكس منه ــ هي فقط تقرأ حكايات وتفاصيل أشخاص آخرين. فما العمل؟ لتكن بداية جديدة، وكأن أحدهما لا يعرف الآخر من قبل، بداية تتحايل وتتدارك الأخطاء السابقة، فكل منهما بعيداً عن الآخر يستشعر خطأ أفدح وأقسى من أخطاء مشتركة قد ارتكباها، سواء بقصد أو بدون. وإن بدت كليمنتاين مشوّشة في البداية، إلا أن قرارها كان الأكثر صواباً، ليصبح الماضي ذكرى منسية أخرى، قد نخجل من تكراره، لكننا نحتفظ به دوماً في منقطة النسيان، وإن حدث جديد فالمكان معد تماماً ليكون جديراً بالاختباء، هنا تتحق فكرة الاختيار، بتكرارات أكثر إرباكاً، أو عوداً أبدياً في شكل جديد، ففكرة العود الأبدي محسومة من البداية، وفلسفتها وتقديمها من خلال قصة رومانتيكية يخلق لها وجوداً آخر، بخلاف قصص الحب الواهية، فالعديد من الحالات التي أتت مأتم الحب ــ عيادة الطبيب ــ قد تنجو بنفسها متوهمة، لكنها أضاعت نفسها في الأساس، فالأشخاص ليسوا كما كانوا، وما التذكارات التي يجتهدون في نسيانها سوى أكفان لأرواحهم الهشة.
محمد عبد الرحيم