«حالمون» شريط المخرج الإيطالي برتولوتشي: مأساة السيد الذي لم يمت
[wpcc-script type=”016d2be91e042f2bccb4002a-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»: رغم تفاوت أعمال المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي إلا أنه قدّم للسينما أعمالاً جديرة بالتأمل وإعادة المشاهدة، ومحاولة ــ سواء بوعي أو بدون ــ عقد مقارنات ما بين ما جسدته هذه الأفلام من موضوعات ورؤى فلسفية، وبين ما يحدث وما نحياه الآن. ومن خلال فيلمين من أهم أفلامه هما «1900» الذي أخرجه عام 1976، وفيلمه «الحالمون» الذي أنجزه في العام 2003، يمكن تتبّع مسيرة فكرية ورؤية مغايرة للتاريخ والثورات وما شابه من الأحداث، التي وإن أصبحت ضمن حكايات الماضي، إلا أن نتائجها لم تزل تلقي بظلالها، وأن هناك تشابهاً وبعض تفاصيل هذه الأحداث ووقائع نعيشها، حتى دون أن ننتبه. الأهم هي رؤية الرجل المُحيّرة في الكثير منها، سواء في استحكام الفكر اليساري بعد الحرب العالمية الثانية، أو الحلم الثوري كما حدث في فرنسا في العام 1968. التواريخ هنا ليست بالأهمية، قدر حالة الحدث وما آل إليه من مصير.
عن السيد الذي لم يمت
من الممكن أن نقول عن فيلم «1900» أنه من الأعمال الفنية التي تشبه الملاحم والسيّر، تاريخ دولة بكل تحولاته وإخفاقاته المتعددة، ورغم نغمة الأمل التي تتردد بين الحين والآخر، إلا أنها سرعان ما تخفت، ويصبح الواقع أشد وطأة. لم يَعِد الفيلم بتصدير الوهم أو الأحكام القاطعة كما كان يريد مشاهدوه، أو مناصرو أفكار برتولوتشي. هناك أمل ثوري، دون نسيان أزمة الواقع. في العام 1901 وفي مزرعة إيطالية يولد أولمو لعائلة من الفلاحين، وفي اليوم نفسه يولد ألفريدو حفيداً للإقطاعي صاحب المزرعة، ورغم التناقض تنشأ الصداقة العميقة بينهما، إلا أن أولمو ــ جيرار دي بارديو ــ يذهب للقتال في الحرب العالمية الأولى، بينما يظل ألفريدو ــ روبرت دي نيرو ــ في منزله لأن والده تفادى ذهابه للحرب بدفع رشوة كبيرة لمسؤولي التجنيد. فترة الطفولة وبداية المراهقة بينهما هي أساس العلاقة في ما بعد، رغم مظاهر الوعي التي ستفرّق ظاهرياً بينهما، أولمو الذي يعود من الحرب حاملاً فكراً يسارياً، ومنادياً بالتغيير، بأن تصبح الأرض ملكاً لزارعيها، بينما ألفريدو يتهكم على هذه الأفكار وقد أصبح السيد الجديد للأرض ومَن عليها من بشر ومخلوقات.
ورغم إيمان أولمو بأفكاره وصحتها وضرورة تنفيذها، يبدو موقف ألفريدو الخائف من أي تغيير في سلطته وسلطة عائلته، حتى لو استعان بآخر يكون هو الممثل الفعلي لهذه السلطة، أتيلا الموظف البسيط في المزرعة، الذي أصبح يمثل صعود اليمين وأفكاره، والتي من السهل أن تصبح هي الجديرة بالتنفيذ. وما بين خوف الإقطاع من انتشار الفكر اليساري/الإصلاحي، كان لابد من صعود الفاشية وتحكمها. ولكن رغم تخلص جموع الفلاحين منه هو وامرأته ــ الأمر أشبه بملاحقة موسوليني وعشيقته ــ تأتي النهاية ربما غير المتوقعة. لابد من محاكمة عادلة للسيد الإقطاعي ألفريدو، تحت سمع وبصر صديق طفولته أولمو، وقبل القصاص منه بلحظات وقد أعلنوا أن (السيد) قد مات، وانتهى عهده، يأتي الجيش الرسمي الجديد ــ القوات الثورية النظامية ــ ليجمع الأسلحة من الفلاحين، ويأمرهم بالذهاب لمباشرة عملهم في الأرض شاكراً إياهم على دورهم في الثورة، فالثورة قد انتهت. هنا يبتسم ألفريدو في سخرية مريرة، قائلاً لأولمو المقاتل الثوري بأنه واهم فإن «السيّد لم يمت». فالسلطة لن تموت، وتتشكل في صورة جديدة، ومَن يصنعون الثورات لن يجنون شيئاً خارج الإطار المحدد لهم.
ليكن حلماً
هل يمكن اعتبار فيلم «الحالمون» امتداداً ــ غير مباشر بالطبع ــ إلى فيلم «1900»؟ فإن كان الانطلاق من إيطاليا وتاريخها السياسي والاجتماعي، فإن الأمر الآن أصبح يرمي بظلاله على أوروبا كلها، من خلال نقطة النور التي تتصدرها، باريس في العام 1968، وثورة الطلبة التي انتقلت إلى أوروبا والعديد من دول العالم. أيام من الحلم تحققت وانتهت. هنا كان لابد من أعادة التفكير في كل شيء ورفض كل سلطة، بداية من سلطة الأب الذي اختفى في نزهة، وصولاً لسلطة الجالس في الإليزيه.
وعن رواية غيلبيرت أدير «الأبرياء المقدسون» والتي تتناول مظاهر جيل ثورة 1986 في باريس، ومدى تمردهم على القيم الإجتماعية جاء فيلم «الحالمون» ليحكي برتولوتشي من خلاله إمكانية الحلم، الذي لا يستمر سوى أيام قليلة، ولابد وأن يستفيق أصحابه في لحظة ما. تدور أحداث الفيلم في الأيام التي اشتعلت فيها الثورة عندما أقدمت وزارة الثقافة الفرنسية على عزل مدير سينماتيك باريس هنري لانجلوا من إدارة السينماتيك الذي أسسه وأداره لعدة سنوات. ومن خلال حياة الشبان الثلاثة الذين يغلقون على أنفسهم المنزل ويحددون قوانين جديدة لذلك المجتمع الصغير. ماثيو ــ مايكل بيت ــ شاب وافد من الولايات المتحدة هرباً من المشاركة في حرب فيتنام، بحجة دراسة السينما واللغة الفرنسية، يتعرف على توأمين فرنسيين من أم بريطانية، ثيو ــ لوي غاريل ــ وايزابيل ــ إيفا غرين ــ حيث يُشاركانه حب السينما، ويحاول ثلاثتهم عبر تمثّل أفلام السينما الهامة والمؤثرة، أن يعيدوا إنتاج الحياة ومفاهيمها وفق هواهم ورؤاهم، دون أية مُسبّقات أو أفكار جاهزة مُجبرين عليها. الأمر أقرب إلى اكتشافات متتالية ومفاجآت يستشعرونها، في جو من الطقوس الغريبة، التي تمثلهم فقط، حتى وإن كانت تغضب الجميع، الذي لم يعد له وجود الآن. فإن كانوا قد احتموا في المنزل وهم مجموعة مراهقين، إلا أن خروجهم في النهاية قد كشف عن مدى النضج الذي طالهم.
رغم ذلك تبدو النهاية ــ كما نهايات برتولوتشي ــ تنتصر للجمالي دون اليقيني، فالفتاة وشقيقها ينزعان إلى العنف، حينما هاجم البوليس الشقة، ولا نعرف مصيرهما بعد انفجار سيارة كانا يحتميان بها، بينما الشاب الأمريكي كان أكثر خوفاً من المشاركة وتأييد العنف. تبدو الثورة هنا كحلم امتد لأيام، لكنها لم تكتمل، ولم تحقق ما كان مرجوا منها. استيقظ الجميع على نفق الحرب الباردة المظلم. هناك الشعور الدائم بأفعال لم تكتمل، وما بين العالم الحر حد الفوضوية/المنزل المغلق عليهم، وما بين الشارع وما يدور فيه، يدور دوماً الصراع بين ما يمكن وما هو كائن. لا توجد أحكام قطعية كما يرجو المُشاهد أو المتوافق والحالم الثوري، ليبدو السؤال أكثر وضوحاً.. لماذا تفشل الثورات؟ ولماذا تصبح فكرتها قرباناً دائماً لحياة سُلطة جديدة أكثر غباء وأشد قسوة؟
اختفى الثلاثة المتفلسفون، عشاق السينما ومعتنقو الحرية في حدها الأقصى كديانة وأكثر، لتظل المقولة التي رددها برتولوتشي على لسان بطله هي الأكثر صدقاً وقسوة من الحلم بأن.. «السيد لم يمت».
محمد عبد الرحيم