إمينويل تود حول «سوسيولوجيا أزمة دينية»: تفكيك فرنسا «الإسلاموفوبية» ونخبتها الاقصائية

«في كل مجتمع من المجتمعات الغربية هناك شارلي نائم، فهناك دائماً كتلة مسيطرة، وطبقة وسطى مستفيدة من العولمة تجمع بين المتعلمين تعليماً عالياً وكبار السن، مستعدة للدفاع عن امتيازاتها، وقبل ذلك عن ضميرها المستريح ضد المستبعدين أو العمال المستقرين أو أبناء المهاجرين. فشارلي يحكم فى كل مكان دون أن يعرف أين يذهب، حيث تسللت كراهية الأجانب التي كانت في الأمس من سمات الأوساط الشعبية إلى النصف الأعلى من البناء الاجتماعي».

إمينويل تود حول «سوسيولوجيا أزمة دينية»: تفكيك فرنسا «الإسلاموفوبية» ونخبتها الاقصائية

[wpcc-script type=”f86e06eb5fc9dd9fda0dc9b8-text/javascript”]

 

«في كل مجتمع من المجتمعات الغربية هناك شارلي نائم، فهناك دائماً كتلة مسيطرة، وطبقة وسطى مستفيدة من العولمة تجمع بين المتعلمين تعليماً عالياً وكبار السن، مستعدة للدفاع عن امتيازاتها، وقبل ذلك عن ضميرها المستريح ضد المستبعدين أو العمال المستقرين أو أبناء المهاجرين. فشارلي يحكم فى كل مكان دون أن يعرف أين يذهب، حيث تسللت كراهية الأجانب التي كانت في الأمس من سمات الأوساط الشعبية إلى النصف الأعلى من البناء الاجتماعي».
هكذا يرى عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود مجتمعه الذي طالما نادى بمقولات الحرية والمساواة، وظل طوال تاريخه ــ وحتى الآن ــ يرى في نفسه وفي تراثه الثوري أنه المجتمع الحامل لهذه القيم، كوجه مشرق لأوروبا والغرب. جاءت (حالة) شارلي إبدو لتوضح مدى الانحدار الذي وصل إليه المجتمع الفرنسي، وهذا الصلف المأزوم الذي أصبحت تتنفسه فرنسا. وفي كتابه «مَن هو شارلي» يوضح تود جذور الأزمة وتداعياتها، وكأنه يوجه صفعة للساسة والصفوة في مجتمعه، ويرى أن حالة الإجماع، ما هي إلا «مجرد كذبة كبرى تخفي وراءها أيديولوجية إقصائية». ترجم الكتاب مؤخراً إلى العربية أنور مغيث، وصدر عن المركز القومي للترجمة ودار التنوير للطباعة والنشر في 229 صفحة.

الهستيريا الفرنسية

كان المظهر المهيب لخروج أعداد هائلة من الشعب الفرنسي إلى الشوارع، تنديداً بجريمة صحيفة «شارلي إبدو» يحاول أن يصوّر مدى التفاف هذا الشعب بجميع فئاته وأعماره حول مبادئ الجمهورية الفرنسية، وقيم أوروبا التي تريد وتصر على تصديرها إلى العالم حتى الآن، صورة كاريكاتيرية للأمة الفرنسية المتماسكة والمتمسكة بقيمها الموروثة وتراثها الثوري البعيد، والتي تعد حقيقة أكثر كاريكاتيرية من الرسوم التي أساءت إلى رسول الإسلام. حيث أصبحت فرنسا تتنفس حالة من الهستيريا المفرطة منذ كانون الثاني/يناير 2015. وقد أثارت مجزرة محررى الصحيفة الساخرة رد فعل جماعي غير مسبوق، فكانت وسائل الإعلام تنقل رسائل تتمثل في إدانة الإرهاب والاحتفاء بالشخصية الرائعة للشعب الفرنسي وتقديس الحرية والجمهورية. كما سعت السلطات الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس السابق فرانسوا أولاند شخصيا ورئيس حكومته مانويل فالس، إلى تسويق صورة هذه التظاهرات على أنها أكبر تظاهرات تشهدها فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مؤكدة على مدى التفاف الشعب الفرنسي بمختلف أطيافه وأديانه حول مبادئ الجمهورية والعدالة ورفض الإرهاب. ويُشكك صاحب الكتاب في عفوية التظاهرات التي نُظمت في فرنسا بعد الهجمات التي استهدفت المجلة، ويرى أن فرنسا التي خرجت إلى الشوارع في ذلك اليوم هي فرنسا المثقفين وأصحاب الدخل المرتفع والمتوسط وليست فرنسا الأحياء الفقيرة والأرياف والعمال. فالطبقات المتوسطة تبدو اليوم بعيدة عن حمل القيم الإيجابية للأمة، فهي في الأساس طبقة أنانية ومنطوية على ذاتها ومزاجها قمعي، بل أنها تخلت عن مبدأ المساواة، وهي فى الغالب قريبة من الأساس الكاثوليكي الفرنسي القديم أكثر من قربها من التراث العلماني، ويبدو أن هذه الطبقات هي فرنسا اليوم وليست فرنسا ذات التراث الثوري، الذي يبدو أنه يتوارى الآن ويصبح شبحاً تاريخياً.

التركيز على الإسلام «يعكس حاجة مَرضية»

«إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مَرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا لتوجيه سهام الكره في اتجاه ما، وليس فقط خوفاً من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حكراً في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام». بهذه النظرة الدقيقة يرى تود الأمر، فلم تعد تصرفات فئة من الأفراد، التي تحمل أفكاراً متطرفة تخص هذه الفئة، بل شملت كل مَن ينتمي إلى ديانتها ــ هذه الصورة التي تترسخ أكثر وأكثر في الغرب عموماً ــ فحال اليهود في الماضي يمر به المسلمون اليوم، وبالتالي جاءت المُصادفة ــ مجزرة شارلي إبدو ــ لتصبح فرصة مناسبة للكشف عن لا وعي الجماعة المترفة، والمرتعبة من تهديد مصالحها في المجتمع الفرنسي، فأصبحت مجلة «شارلي إبدو» ورسومها الكاريكاتيرية عن رسول الإسلام معبداً مقدساً يعكس مفهوم الحرية في التعبير، وأعلنت الحكومة عن دعم للمساعدة فى إصدار المجلة الأسبوعية، وسارت الجماهير التي استدعتها الحكومة في مسيرة في كافة أنحاء فرنسا يحملون أقلام رصاص في أيديهم رمزا لحرية الصحافة، يصفقون لقوات الأمن والقناصة الموجودين على أسطح المنازل، وشعار «أنا شارلي» أصبح مرسوما بأحرف بيضاء على خلفية سوداء، وغزا الشاشات والشوارع وقوائم الطعام بالمطاعم ــ الشعار نفسه تصدّر صفحات الفيسبوك لعدة أيام في العالم العربي ــ هذه كانت الصورة في لحظة مكثفة الدلالة، لتتواتر بعدها حوادث مشابهة متكررة ومُمَنهجة يبدو فيها التطاول على رسول الإسلام، وهو الشخصية المركزية لدى جماعة ضعيفة هناك يمارَس ضدها تمييز ينبغى له أن يُعد تحريضاً على الكراهية الدينية والعرقية والعنصرية، وكأن فرنسا قد وجدت ضالتها أخيراً بدورها في العدو الذي يجب أن تواجهه، وأن يلتف العالم حولها في هذه الحرب المقدسة. يقول إيمانويل تود، «ما يقلقني اليوم ليس حفنة من المتطرفين والمختلين عقلياً الذين يرتكبون هجمات إرهابية باسم الإسلام، بل الهستيريا التي أصابت المجتمع الفرنسي إلى درجة أصبحت الشرطة تستدعي أطفالاً لا تتعدى أعمارهم 8 سنوات إلى مراكز الأمن».

الأزمة الدينية العميقة

يؤكد المؤلف أن فرنسا بحالتها هذه تعيش أزمة دينية عنيفة، ويعقد مقارنة بين حادث «شارلي إبدو» وبين اضطرابات الضواحي في 2005 ــ اندلعت الأحداث إثر موت شاب من الضواحي مصعوقاً بالكهرباء وهو يفر من مطاردة البوليس ــ فالشباب الذين أحرقوا السيارات وقتها كانوا يطالبون بالمساواة، وقتها لم تطلق الشرطة رصاصة واحدة، تماماً كما حدث في ثورة الطلبة في أيار/مايو 1968 فقد كانت فرنسا متسامحة وحرة، فلا المجتمع ولا الحكومة أو الصحافة قد روّعته الاضطرابات. أما في 2015 فإدانة عمل إرهابي لم تكن تستدعي بالضرورة تقديس «شارلي إبدو» فكيف يمكن أن تكون صورة المتظاهرين بأقلامهم الرصاص وكأنهم يمثلون رمزاً للحرية، وهم في الأصل يهينون التاريخ؟ لأنه في حقبة النازية كانت الرسوم الكاريكاتيرية لليهودي ذي البشرة السمراء والأنف المعقوف تسبق العنف الجسدي. كذلك يعقد تود مقارنة سريعة بين عدد ضحايا «شارلي إبدو» وعدد ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وكيف سخر العالم ونقم على طريقة معالجة بوش الابن للأمر. ويرى أنه بهذه الأفعال التي يصفها بالخِسة الأخلاقية للساسة الفرنسيين «نكون حصلنا على تقديس سلبي للشر بواسطة السلطات، يؤدي إلى تفاقم التوترات الدينية في المجتمع الفرنسي وعلاقته بالعالم». ففرنسا الآن تعيش أزمة نمط شبه ديني، ولا تعرف أين تذهب.

إيمانويل تود: «مَن هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية»
ترجمة: أنور مغيث
المركز القومي للترجمة، ودار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة 2017
229 صفحة.

إمينويل تود حول «سوسيولوجيا أزمة دينية»: تفكيك فرنسا «الإسلاموفوبية» ونخبتها الاقصائية

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *