التركيب الجمالي في أعمال القطرية أمل العاثم
[wpcc-script type=”e314e3514a3c79dd3590fd4e-text/javascript”]
تستحوذ الألوان المنظمة بشكل دقيق على معظم الفضاء المدجج بالمعالم الإيحائية، فتصبح المساحة في أعمال التشكيلية القطرية أمل العاثم لغة لونية، تنطق بالعديد من المفاهيم المختزلة في الضربات اللونية الدائرية والمعينة، في تناغم وتوليف وانسجام، وهي توحي بالحياة والحركة، سواء من المنظور الإبداعي، أو من خلال التركيبة الجمالية أيضا، حيث تستهدف مجموعة من القيم، وترصد كل مقومات الوجود المترامي الأطراف.
فتعتمد الكثافة اللونية، وسد منافذ الفضاء. وبذلك تتبدى لوحاتها انعكاسا روحيا يختزل جملة من المعالم، فتصور مجموعة من القيم بتقنيات عالية، تمثل أصنافا من الوجود والحياة، بانسيابية وعفوية وانطباعية على نحو من الهدوء، ونوع من التروي والدقة، والرزانة والموازنة، بين المادة التراثية الجادة، والأصناف التعبيرية الفاتنة، بشكل يمتح بعضا من مقوماته من المجال الواقعي، يتجاوز الخيال في أحايين كثيرة، لتعود المادة التشكيلية إلى حدود الواقع، الذي انبثقت منه، تجسدها مختلف الألوان والأشكال؛ وعلى الرغم من عامل الطاقة الحركية التي تصنعها في الشكل، ويولدها اللون بكثافته، ودلالاته الرمزية المتعددة والمتنوعة، فإن ما ورائيات ذلك، تتبدى وتتمرأى في أشكال متنوعة من الجماليات، وتظهر جلية في الكتل اللونية المنزوية في خانات شكلية، تبرز تدريجيا مع اللون. ولعل هذا يبرز جانبا كبيرا من التفاعل الجدلي بين المكونات التحولية للعالم الفني، ومتطلبات الحياة ولوازمها الجمالية، بتوظيف إبداعي نوعي، يعتمد تدفق اللون المعاصر وتكثيفه، وينتهي إلى أبعاد زمانية ومكانية، وفق تسخير فضائي يلامس المادة الفنية في جوهرها، في محاورة طليقة كأساس في عملية البناء. وهو ما يجعل هذه التجربة الفنية، تنبني على أسلوب فريد، يميل إلى التجريد أحيانا ويروم الواقعية أحيانا أخرى، بوجود علائقي مكثف بين مختلف الرموز والعلامات والألوان، وبوجود انسجام بين مختلف العناصر المكونة لأعمال الفنانة المائزة أمل العاثم.
إن مجال الحجب يتسع ليشمل غالبا، معظم الفضاء، ولعل مجال الكشف، يتخذ من الطريقة في التوظيف، ورصد محيط الألوان، وتفكيك الرموز، أدوات تستجلي بعضا من المكنونات، فتتبدى أعمالها ناطقة بتعبيرات قيمية محسوسة، تتحرك بكل الصبائغ الفنية، التي تتخذ من الألوان المختلفة أداة نسيجية، وأفقا تعبيريا وتصوريا، يفصح عن العديد من المعاني، ويقرب القارئ من المادة التشكيلية.
إن الأسلوب التشكيلي لأمل العاثم يبسط طرائق متعددة لصنع مجموعة من العلاقات الجدلية، والأساليب التحاورية، والأدوات التحولية، وبعض الأشكال التعبيرية، والتداخلات الرمزية والعلاماتية، والاستعمالات اللونية الكثيفة والمنسجمة، التي تسعى من خلالها إلى صنع مجال فني خصب، يقوم على أبعاد رؤيوية شخصية للفنانة يستجيب إلى البعد الجمالي في صيغه المختلفة، تدعم به إشكالية السر وتدعم به المجال التعبيري، في حين أن إشكالية الغموض تدعم المسار الإبداعي المعاصر.
ولا يمكن استثناء الأبعاد الفلسفية في أعمال الفنانة التشكيلية أمل العاثم، وهي تتبدى بشكل صريح وتتفاعل مع المعطيات التشكيلية الحديثة، وتنبثق أساسا من المجال التعبيري، الذي تتميز به الفنانة، وتختص به ضمن النسيج الثقافي، والرصيد المعرفي التشكيلي، وتتحكم في تدبيره، داخل العمل التشكيلي، وأيضا من خلال توظيفها سواء بشكل انطباعي، أو تلقائي، أو بوعي داخل الفضاء، بشكل مروني كبير، فبكل ذلك تختص المبدعة برؤى فلسفية متناسقة ومترابطة، يؤكدها أسلوبها التعبيري المتنوع المضامين، حيث يعكس بشكل جلي ثقافتها التشكيلية الخصبة والموسوعية في التفكير والتنظير، وهو ما يعد ارتقاء بالعملية الإبداعية في المنظومة التشكيلية المعاصرة. إنه في الواقع النقدي انزياح عن المألوف في عالم التشكيل، وارتقاء في التعبير وفق طقوس ومفردات لا تنتهي، لأنها تستمد كينونتها ووجودها من نبع متعدد الأطراف والمناحي والتصورات والرؤى، وهو أيضا إرساء لمقومات العمل الفني المبني على أسس من الخبايا والرموز التشكيلية المختلفة.
إن لجوء الفنانة لهذا المنحى المعرفي والفلسفي بتعبير عميق، هو في الأصل لجوء إلى عالم جديد بمقومات وثوابت أصيلة، تحتوي مخزونا حضاريا كبيرا. فمن خلاله تثبت داخل أعمالها أشكالا وعوالم جديدة، تؤثث لمنحى فني تفاعلي يدحض البناءات الفراغية وينسج مجالا تراكميا، متكاثف الألوان والرموز والعلامات، باختيار منظم، تعتمد فيه غايات فنية مستمرة صرفة، وهي سمة تلوح أنوارها في إبداعاتها الرائقة، وفق تفاعليات وجماليات متنوعة ومختلفة، سواء على مستوى التقنيات المستعملة أو على مستوى المادة اللونية بكل مضامينها ومقوماتها، أو على مستوى التباينات الموظفة بشكل دقيق، أو على مستوى التعابير الفنية والمفاهيمية، التي تنطق بها لوحاتها وتفرزها هياكلها. إنها بذلك تثبت وجودها وحضورها في الساحة التشكيلية المعاصرة العالمية بروح عالمة وثقافة رصينة ولغة تشكيلية حصيفة.
٭ ناقد تشكيلي مغربي
محمد البندوري