أعراس النظام الحاكم ومآتم الشهداء في مصر
[wpcc-script type=”64a8a5fcac6dbcedf2fa91a0-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «أنا سعيد على المستوى الشخصي ببراءة مبارك، يمكنه الآن أن يرفع رأسه بكل فخر». (عضو الكنيست بنيامين بن أليعازر/صحيفة يديعوت أحرنوت نوفمبر 2014).
«يجب أن تعلموا أنكم لستم متهمين، بل أبطالا». (أحد القضاة إلى متهمي الشرطة في قتل المتظاهرين/مارس 2015).
لم تكن التبرئة النهائية للمخلوع بعيدة عن التصوّر، خاصة بعدما استبقت ذلك عدة أحكام صدرت ببراءة معاونيه ووزير داخليته، وبعض رجال الشرطة المتهمين من قبل. بداية من محاكماتهم وفق قوانين سُنّت في ظل النظام السياسي الذي أسقطته ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، وصولاً إلى المناخ البوليسي الذي تحياه مصر الآن، والذي نال المخلوع حكم البراءة النهائي والبات في ظِله الوارف. وهو ما يكشف عن مسارات هذه (الثورة) التي تحالف الجميع ضدها وفق مصالحهم وتحقق وجودهم بمعنى أدق، وهو ما يؤكد عدم وجود رغبة سياسية لإدانته منذ البداية. صدر الحكم عن نظام قضائي مسيَّس إلى حد كبير، غير مستقل عن السلطة التنفيذية، ويعمل كذراع قضائي لـ (الدولة العميقة) ونظامها الحالي المدعوم من الجيش، فقضية المخلوع لم تكن أبداً قضية من قضايا العدالة، وإنما إحدى قضايا السياسة، فهي تعكس مسار ثورة 25 يناير منذ بدايتها وحتى اللحظة الراهنة. لذا فنظام المخلوع لم يسقط، وقتل المتظاهرين مستمر، وما الحكم الأخير إلا تأريخاً للفشل المطلق لمنظومة العدالة في مصر في القصاص للآلاف من شهداء الثورة.
تذكِرة
«عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية» كانت هذه البداية، التي انطلقت في صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 2011، وبعدها ترددت عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»، حتى خروج اللواء عمر سليمان ببيانه الرسمي، معلناً فيه تنحي الرئيس عن رئاسة الجمهورية مع تكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد. كانت محصلة القتلى وقتها 1075 قتيلا. وبدأ الحديث عن «محاكمة القرن» في إشارة إلى محاكمة المخلوع وفلوله، لينتهي فصلها الأول بالحكم على المخلوع ووزير داخليته في 2 حزيران/يونيو من العام 2012 بالسجن المؤبد، بعد إدانته بتهم تتصل بقتل 239 متظاهرا. وصدّر المستشار (أحمد رفعت) جلسة النطق بالحكم ببعض العبارات، كوصفه الثورة بأنها «شمس فجر جديد لم ترَه مصر من قبل»، وأن فترة حكم المخلوع «كابوس ليل مظلم أخلد لثلاثين عاماً». لكن محكمة النقض ألغت الحكم في 13 كانون الثاني/يناير من العام 2013، وقررت إعادة المحاكمة من جديد أمام دائرة أخرى في محكمة جنايات القاهرة. وفي الفصل الثاني من المحاكمة، قضت الدائرة الجديدة في يوم السبت الموافق 29 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2014، ببراءة المخلوع، ونجليه، ووزير داخليته، و6 من مساعدي الأخير، وبعدم جواز نظر الدعوى الجنائية ضده، وقال المستشار محمود كامل الرشيدي في حيثيات حكمه ببراءة المخلوع، «ما كان يتناسب محاكمة رئيس الجمهورية الأسبق بقوة قانون العقوبات». إلا أن النيابة العامة طعنت على الحكم أمام محكمة النقض، التي قبلت الطعن بدورها، وقررت إعادة المحاكمة للمرة الثانية والأخيرة على أن تعقد أمامها، ليصدر حكمها الأخير ببراءة المخلوع، ووزير داخليته وأربعة من مساعدي الأخير، كما رفضت المحكمة مطالب محاميي أسر المتظاهرين برفع دعاوى قضائية أخرى ضد مبارك. وهو حكم بات غير قابل لأي شكل من أشكال الطعن فيه.
يشير سياق المحاكمة إلى أنه كان سياسياً من البداية، فلم يجر تحقيق حقيقي ضد المخلوع، إلا أن الطبيعة السياسية للمحاكمة لا تعني أن الحكم غير شرعي من الناحية القانونية وفقا للعيوب الإجرائية للتحقيق والمحاكمة، حيث كان لابد من التعاون الكامل بين الأجهزة الأمنية والإدعاء العام لتبرير الأدلة المقدمة إلى المحاكمة وهو الذي لم يحدث.
كما أن من خلال هذا الحكم يستعرض النظام القائم في مصر حالياً سلطته القمعية، بمساعدة بعض قضاة وأعضاء نيابة، خططوا من اليوم الأول أن تكون كافة الإجراءات في صالح المخلوع ونظامه. فمحاباة النظام القضائي لدولة المخلوع أمر طبيعي، ففي عهده تمتعوا بامتيازات مالية كبيرة. وفي السنوات التي تلت الثورة، وضعت المؤسسة القضائية كامل ثقلها باطمئنان خلف رموز هذا النظام رداً للجميل، وحفاظاً على مكتسباتهم التي زادت في عهد النظام الحالي.
القضاء والدولة الأمنية
مثّل هذا الحكم مدى انتصار الثورة المضادة في مصر، من خلال نظام حاكم يسعى جاهداً لمحو آثار كل ما حدث، وجعله على سبيل الذكرى الأليمة، بالتالي استتباب الأمر له، هذا الحكم أحكم دائرة اليأس لدى العديد من المصريين، كما أن جماعات حقوق الإنسان وصفت مراراً المناخ السياسي الحالي بمصر بأنه أكثر قمعاً من نظام المخلوع، الذي تمتع بمقدار من المعارضة، بينما لا يجرؤ أحد الآن على مساءلة النظام الحالي. كما أشارت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» الأمريكية إلى أن الحكم قضى على ثقة المصريين في القضاء، ولم يعد لديهم سبباً للثقة في النظام القضائي في ظل الأحكام الجائرة على مئات المصريين يوميا لمشاركتهم في احتجاجات، في حين تتم تبرئة المخلوع من تهمة قتل المتظاهرين وقضايا فساد، مشيرة إلى أن القضاء ابتسم للمخلوع في قضيته، بينما تواجه شخصيات عديدة في ثورة 25 يناير عقوبات قاسية من قِبل هذا القضاء لمشاركتهم في تظاهرات، حيث حظر النظام الحالي التظاهرات والاحتجاجات. وتظل المشكلة الحقيقية التي تواجهها مصر في الوقت الراهن هي عودة الدولة الأمنية من جديد، التي تتكأ على المنظومة القضائية باعتبارها أحد أسلحتها. غير أن الجديد هنا هو أن القبضة الأمنية باتت في يد الجيش الذي لا يمتلك عصبة من الامتيازات فحسب، بل وعمد إلى توسيع إمبراطوريته الاقتصادية، إضافة إلى تقنين هيمنته السياسية دستورياً.
التائهون والنظام الثوري
حالة عدم الاكتراث التي قُوبلت بها تبرئة المخلوع في الشارع المصري، تعكس فقدان الأمل التي تشعر بها الحركات السياسية المصرية، كما يتضح مدى فشل الليبراليين والسياسيين العلمانيين في تنظيم أنفسهم، ومدى ضعفهم في تسويق أفكارهم عن مصر التي كان يتنازعها الإسلاميون والعسكر، فبعض الليبراليين يدعمون الرئيس الحالي، رغم أن حكمه أكثر قسوة من حكم المخلوع، ويزعمون أن حكومة مستقرة رغم وحشيتها تعطيهم الفرصة لنثر بذور الديمقراطية. كل ذلك في ظل نظام يدّعي الثورية، رغم أن النظام الذي حكم من خلاله المخلوع كان يزعم هذه الثورية طيلة 60 عاماً أو يزيد.
رسالة النظام
يريد النظام المدعوم من الجيش إرسال رسالة قوية بأنه ومؤسساته القمعية يحافظ على سيادته، ولا يخضع للمساءلة، إذ أن تجريم المخلوع يجرم أيضاً النظام الحالي بشكل غير مباشر لقتل وسجن وتعذيب المتظاهرين، وهو علامة على أن النظام الحالي يبارك كافة الممارسات السابقة، ولا يوجد ما يدعو للإدانة أو التنديد، باعتبار أنها أعمال لا يدينها القضاء. وبذلك تتواصل النتائج فالحكم رسّخ بذلك أركان الدولة العميقة التي كانت موجودة في عهد المخلوع ولا تزال، وأنهى ما يسمى الربيع العربي في مصر رسميا، بعد سحق الجيش له وحقق قائده السابق ومدير مخابرات المخلوع انتصاراً كاملاً على الربيع العربي.
نقطة الصفر
ورغم قسوة ما يحدث، إلا أن هذا الحكم ربما يكون فرصة ــ دون أي مواربة ــ لإعادة ترتيب الصفوف، ونتيجة مباشرة لأخطاء حدثت تجسدت نتائجها الآن. ولابد من الاعتراف بأن مصر عادت إلى نقطة الصفر ــ ما قبل يوم 25 يناير 2011 ــ خاصة وأن الكثير من أبواق ورجال المخلوع هم الآن على رأس مؤسسات الدولة، خاصة الأمنية والسياسية، كما تواصل وسائل الإعلام الحكومية والخاصة تشويه كل من شارك في ثورة يناير، الذين يقبع كثير منهم في السجن، بينما النشطاء السياسيون يتعرضون للملاحقة والاتهام بالعمالة والخيانة، ضمن جزء من حملة شرسة ضد كل من يعارض النظام الحالي. فلا مفر ولا طريق آخر سوى البدء من جديد.
محمد عبد الرحيم