في حارات مصر برفقة أعمال الفنان المصري محمد أبو الوفا
[wpcc-script type=”61f727788866c0b893331282-text/javascript”]
حتى تعرف بلداً تمام المعرفة لا أفضل من الحكايات لتدلّك على تفاصيله الدقيقة والحقيقية، تحملك إلى قلبه وتعطيك مرايا كثيرة لتبصر أوجهه كاملة. بلدٌ بحجم مصر، وتاريخه وحيويته، تستطيع أن تصنع له خارطةً صغيرة في خيالك دون أن تزوره حتى، فمجموعة من لوحات الفنان المصري محمد أبو الوفا (مواليد 1978) تستطيع أن تتقمّص دور الحكواتي فتجلس أمامك بنظارة طبية وتعتمر طربوشاً وتقصّ عليك كلّ ما ترغب في سماعه.
لوحات مجموعة «الليلة الكبيرة» ـ على سبيل المثال ـ والتي كان فيها أبو الوفا، بالإضافة إلى كونه فناناً، محرّكاً للدّمى ضمن مسارح العرائس الصغيرة الساكنة في لوحاته؛ ترسم الخيوط التي تحرّك الدمية بشكلٍ واضح. خطوط سوداء مستقيمة، يختار بأصابعه وضعية محددة لكل شخصية، ويترك الخيار أمامنا لتغيير المشهد كما نريد، الخلفيات ثابتة، والشخصيات تتحرك وتتمايل كلٌّ حسب خياله وتفاعله مع جو العمل. ومن لوحات هذه المجموعة «بائع الفرارير» وتصوّر بائعاً وقد تجمّع الأطفال حوله، بضاعته دواليب الهواء الورقية متجاورة مع المزامير والطبول الملوّنة التي تحملنا من كلّ بدٍّ إلى يوم العيد. لوحة «صندوق الدنيا»، حيث الأطفال الثلاثة يلصقون وجوههم في الفتحات ويشاهدون الحكاية التي تدور رحاها داخل الصندوق ـ مثلنا ونحن نتأمل هذه اللوحات ـ تعلوهم صورة عنترة، أيقونة الحكايات والبطولات مع حصانه الأبجر. لوحة «الأراكوز» تظهر لنا الدمية بحالة فرح وتفاعل مع المحيط، الأراكوز يضرب على الدف، وأمامه الجمهور يتقدمه راقصةٌ تقف على الكرسي وتنحني إلى الخلف حتى يكاد رأسها يخرج من اللوحة.
وهنالك الكثير من اللوحات التي تصوّر تفاصيل الحياة الاجتماعية في أحياء مصر وحاراتها الشعبية، فنجد لوحةً تصوّر الساحة أمام القهوة التي نقرأ اسمها «قهوة عجوة» وبالجوار منها لافتةٌ قماشية تحمل كتابة وكأنها شعار يخصّ الانتخابات، وإلا لمَ ذاك الرجل في المقدمة يخطب! الرجال بلباسهم التقليدي يشربون الشيشة وصبي القهوة يحمل الطلبات عالياً وكأنها تطير، صبي يجرّ وراءه كلباً صغيراً ورأس حصان في الزاوية السفلى اليسارية للوحة، رجل وامرأة على الشرفة مع سجادةٍ مدلاة ونوافذ بأباجورات خضراء، وسقفٌ من القش يغطي نصف السماء ويشغل المساحة الخارجية من العمل. العيد وأجواؤه حاضران في عدد من الأعمال، وثمة لوحة تصوّر لعبة الرماية للأطفال ببنادق الخرز، وحفلة غنائية مكتظة الجمهور طبعاً مع راقصة تتقدّم عازفي الفرقة الموسيقية، والسيرك الحاضر بخيمته الحمراء والتي اختصرها أبو الوفا بقماشة حمراء في صدر اللوحة موشّاة بالأزرق.
على الرغم من أن الشخصيات المرسومة قريبةٌ من ملامح الدمى إلى أبعد حد، إلا أن تعابير وجوهها مدروسة بشكلٍ جيد، فنلاحظ الحاقد المترقّب بذقنٍ بارزة وعينين غائرتين مع انحناءة في الظهر، ومعه نجد المرتاح بعينين متطلعتين نحو السماء وابتسامة خجلة، رجال فرحون، وآخرون ممتلئون بالحزن مغمضو الأعين، والكثير من الحياديين المنتظرين لقلب الصفحة. لوحات أخرى تصوّر طقوساً دينية واحتفالات اجتماعية، كيوم المولد، فنرى الأطفال يحملون الشموع في الشوارع بصحبة أمهاتهم، كما في لوحات «حلقة ذكر»، و«المسيرة» و«أهل الطريقة»، وهذه الأعمال لا تكاد تخلو من كتابات واكسسوارات (السبحة، والطرابيش والقبعات، الدفوف واللافتات حاملة الشعارات…) تخدّم المناسبة التي يريد أبو الوفا تمثيلها.
كلّ ما ذكرنا من تفاصيل ضمّنها في لوحاته ليجعل منها ما يشبه وثائق تأريخية لفترة معينة من تاريخ مصر، بعاداتها وتقاليدها، مع أرشفة للأزياء في حقبة معينة، طبعاً مع كونها أعمال فنيّة ذات قيمة جمالية. إذن كلّ ما نجد من عناصر هنا يحمل دلالةً مباشرة لا تحتمل التأويل، بل هو توظيف واضح صريح للموروث الشعبي وفق أسلوب فني لا يخلو من المزج بين التجريد المقروء ـ كما ذكر أبو الوفا ـ والتبسيط الشديد للواقعية، ليتم خلق لوحات مفهومة من قبل الجميع. فالخطاب هنا ليس لنخبة متذوقي الفن ورواد المعارض فقط، إنما هو تعريف بتفاصيل مصريّة وتذكيرٌ بها ضمن طبقات المجتمع المختلفة.
الألوان تمتد ضمن مساحات صامتة، بعيدة عن نغمات التدرّج اللوني، ضوء وظل فقط، هو أسلوب التبسيط في تلوين اللوحات، حيث نرى اللون الغامق والفاتح بحدود واضحة بينهما. الأعمال ممتلئة بشكل عام، لا مكانَ يحوي مساحات فارغة، حتى في حال غياب التفاصيل والعناصر والتكوينات، تأتي الألوان وتملأ المساحة فتعيد توازن اللوحة وخاصة الألوان الحارة الثقيلة الأكثر استخداما عند أبو الوفا، وذلك في محاولة لجذب انتباه المتلقي ومحاصرته بالتفاصيل المتوزّعة في أبعاد اللوحة.
وهذه تتكوّن من بعدين أساسيين في الأغلب، الأول يحوي الشخصيات الرئيسية والمتحركة، والبعد الثاني ويحمل الخلفية بكل مفرداتها. لكن هذا الأسلوب ليس ثابتا، إنه يتبدّل بشكل كامل عندما يتجه أبو الوفا لتصوير البيئة المكانية الطبيعية (أشجار، نخيل وكثبان رملية) وأبنية وآثار، فتكون الألوان هنا متناسبة مع هذه المفردات والعناصر، فنجد الألوان الترابية، درجات البني والأصفر والأخضر القاتم وهي قوية وواضحة. المنظور في هذه الأعمال مسطّح، والأبعاد تتكدّس، فنرى الأبنية تصطف فوق بعضها البعض، كل مجموعة تستلقي ضمن لون أو درجة لونية، وكلّما زادت هذه الألوان شعرنا باكتظاظ المكان وبالمدى المطوي بين هذه الدرجات. الأشجار قليلة العدد باعتبار أن المناطق المصوّرة صحراوية، وهنالك النخيل ونوع آخر لعله الأكاسيا. وما دام الحديث عن مصر، فلا يمكن لأبو الوفا أن يُغفل الآثار، فنجدها إما موجودة بمعالم ضبابية وكأنها أطلالٌ دارسة، أو تكون المومياءات واقفة كالحراس على جانب اللوحة.
بعض أعمال أبو الوفا تحمل هما آخر يمتلك نفساً مغايرا تماما، فنجده يصوّر أفرادا بهمومهم الصغيرة وحياتهم البسيطة المتدرجة لونياً كما لم يكن في أعمال أخرى. نلاحظ شيخا بشعر أشيب وثياب رسمية بالقرب من المذياع القديم، يشرب الشاي بكل راحة، أو نتأمل امرأة بثوب من الدانتيل الأبيض مع رأس مطموس الملامح محني للأمام بينما رأس خيالها الواسع منتصب، في إشارة ربما لعدم قدرة المرأة عن الإفصاح عما يجول في خيالها، أو ربما كان هذا الخيال الأسود الذي يحضنها رجلاً ما في حياتها، يعيش في الظل بحكم عادات وتقاليد ترفض وجوده. الانكسار أيضاً يبرز في لوحة عجوزٍ ترتدي الأبيض وتتعكز على ذكرياتها، هل كونها امرأة هو من حنى ظهرها، أم تراكم السنين فوق أكتافها؟ لوحة أخرى تحكي حكاية امرأة ثانية بحجم صغير تجلس قبالتها على الكرسي وتستمع باهتمام، علّها تمتلئ قصصاً وخبرات وتكبر؛ مجموع هؤلاء الأفراد يشكّل خريطةً لمصر من قصص شخصية هذه المرة.
أبو الوفا فنان مصري يمسك بيدنا لنتجول داخل الخرائط في مدن مصر الملوّنة وأحيائها الممتلئة بالحياة، يدخلنا إلى بيوت أفرادها لنرتاح هناك، ومع كوب شاي نكمل الرحلة.
بسمة شيخو