الفنان اللبناني وجيه نحلة رفع فرشاته عن اللوحة وغادر
[wpcc-script type=”ad5d9e3d72224cf997548315-text/javascript”]
■ «الفن العربي بخير»، كان الفنان الراحل وجيه نحلة – مواليد عام 1932 -يردد هذا دائماً، كيف لا يجد الفن بخير وقد وصل فنه للعالمية، فعرض أعماله في بلدانٍ كثيرة (بيروت – الإسكندرية – بغداد – الكويت – الرياض – دبي – أبو ظبي – روما – بلغراد – باريس – كان – نيس – لندن – البندقية – نيويورك – لوس أنجليس – واشنطن – بيفرلي هيلز – بوكاراتون – أوزاكا – جنيف – كوالالمبور – بروناي – مونتريال – زيوريخ – البحرين). ونال العديد من الجوائز أيضاً: جائزة وزارة التربية الوطنية عام 1965، جائزة متحف سرقس، جائزة بينال الإسكندرية، جائزة بينال الدول العربية في الكويت، جائزة الغران باليه في باريس، جائزة متحف متروبو لبنان في نيويورك، وسام الاستحقاق اللبناني للآداب والفنون، جائزة معهد العالم العربي في باريس، جائزة متحف الفن الحديث في تونس، وسام السعف الذهبي من بلجيكا، الجائزة الكبرى للمعرض السادس والستين للفنون التشكيلية في باريس.
وعن الجوائز قال نحلة: «إن الجوائز الحقيقية التي ينالها الفنان، ليست تلك التي تعلّق على صدره، بل هي الأعمال التي تترك أثرا من بعده».
راهن نحلة أنه سيحصّل جائزةً بعد مغادرته وستترك أعماله أثراً في حركة الفن العربي الحديث ولدى الفنانين العرب وسيكسب الرهان؛ وجيه نحلة درس الهندسة المعمارية، لكنه كان دائم الزيارة لمرسم الفنان مصطفى فرّوخ (1901 – 1957) هناك أعجب بالانطباعية التي تبنّى مذهبها في بداية حياته الفنية، عمل مهندسا في وزارة الأشغال اللبنانية لسنوات قرّر بعدها أن يتفرّغ للفن نهاية الخمسينيات، بدأ بالانطباعية ثم انتقل إلى الفنون الإسلامية وعوالمها المختلفة، وراح يبدع في لوحاتها التي حملتْه وأعماله نحو العالمية، فكانت لوحاته تحمل التراث والموروث التاريخي الفني بيد وتحمل الحداثة وأفكارها بيدٍ أخرى، فيخرج عمله أصيلاً مرتدياً ثياب العصر، وقد رأى بعض النقّاد أن دخول نحلة هذه المرحلة كانت بدوافع تجارية، وذلك ليدخل بلوحاته إلى منطقة الخليج، وإن كان هذا الأمر قد أصبح حقيقة، فقد دخل لعالم الخليج وصارت أعماله جزءاً من قصور الملوك والأمراء وصالات المطارات أيضاً (مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدّة، ومطار الملك خالد الدولي في الرياض) إلا أن دخوله لسوق الخليج بهذه القوة لم يكن فقط بسبب المواضيع المختارة والمواد المستخدمة – أطلق نحلة على نتاجه في السبعينيات تسمية «المرحلة الذهبية» لطغيان مادة الذهب على حروفه وزخارفه ذات الملمس النافر- بل كان ذلك بفضل حسّه الفني العالي وقدرته الإبداعية على منح هذه المواضيع المكررة طعماً جديداً ليجعلها تنتمي للفنون الحديثة وتجاري فنون الغرب ولا تقف بمكانها تراقب الفن الغربي وهو يقطع محطات ويغادر بعيداً، بينما هي في مكانها تلوّح مودعةً فقط.
قال عنه الناقد الفرنسي أندريه بارينو بعد معرضه في غاليري «والى فندلي» في باريس سنة 1977 في مقالته الشهيرة «صوت من الشرق» (1977) «إنه وجه عربي مسلم غير أنه ممهور بعقلانية الغرب… أكثر التجريديين قرباً من الواقع وأكثر التصويريين تجريداً.» قام نحلة أيضاً باستخدام الأحرف الفينيقية مع رموز مستوحاة من نقوش وآثار الحضارات الشرقية القديمة محاولاً توظيفها ضمن لوحاته التي كانت تبدو وكأنها تحمل تمائم سحرية.
في مرحلة الحروفية اكتشف نحلة جمالية الحرف العربي وبدأ بالتعامل معه وفق مفهومين، الأول أنه رمزٌ صوفيٌّ يمنح اللوحة دلالاتٍ روحانية من حيث اختيار الأحرف (الألف مثلاً ترمز لوحدانية الخالق) ومن حيث توضّع الأحرف ضمن اللوحة بشكل أفقي يخلق جواً من السكينة والطمأنينة، أو بشكلٍ شاقولي وكأنها انطلاقةٌ نحو المستقبل، خاصةً عندما تتكدّس الأحرف أسفل التكوين وينطلق بعضها نحو الأعلى بكلّ قوة، تكوينات عمودية تصل الماضي بالمستقبل، أو أفقية تستلقي في حضن الحاضر، التكوينات المائلة، متوتّرة تمنح اللوحة ديناميكية وحركيّة توضّح التيار الذي التزم به نحلة – بالإضافة لتيار التجريد الحرفي الذي نشأ في باريس- وهو تيار الفن الحركي – أو ما يسميه نحلة «الحركة اللونية»، ليقترب من جماليات عصر السرعة وفق مفهوم الفن الغربي، ويتواصل مع فناني التجريد الحركيين من أمثال هانز هارتونغ وجورج ماتيو – والفن الحركي يعتمد على الارتجال في التنفيذ والسرعة بضربات الريشة على اللوحة، وعن ذلك قال جوزف أبو رزق أستاذ الجماليات في الجامعة اللبنانية: «الحيوية والسرعة والخفة التي يبديها وجيه نحله في أثناء تنفيذ لوحاته، ليست بالمناورات المجانية ولا بالحركات البهلوانية، بل بالمواقف التي يفرضها طبعه البركاني من جهة، ورغبته الملحة في ترجمة معطيات حدسه بصورة فورية» فيستخدم الأحرف هنا وفق المفهوم الثاني الذي يعتبر الأحرف عناصر شكليّة تستمدّ طاقتها الجمالية من الحركة واللون.
اللوحة لديه تحمل الكثير من الدلالات والتأويلات والإيحاءات الصوفية الروحانية، لتدخل ضمن حدود التجريد «بعد استيعابٍ مكتمل لتجارب بيكاسو، كاندنسكي، بول كله ومارك توبي»، على الرّغم من بعض العناصر التي يدّخلها نحلة ضمن العمل، كالأحصنة البيضاء التي تشقّ عباب السماء، والنساء بثيابهن الملونة اللاتي يتبخترن فوق سحب زرقاء، يحميهن وجيه نحلة من الوقوع، ليبدو العمل سريالياً بلمسة شرقية تأتي من ارتداء الحصان والمرأة قناعاً رمزيّاً ليصبحا جزءاً من إسقاطات نحلة الرمزيّة، فالحصان هو أصالة الشرق، والمرأة هي جمال الشرق وآلهته وكلاهما رمزٌ للانعتاق من كلّ قيد وصورةٌ لقوة الانطلاق.
أعمال نحلة تسحرك ليس بتمائمها فقط، بل بتكويناتها المركزية البؤرية التي تسحبك كالدوامة في التكوينات التجريدية الراقصة مع انحناءات رشيقة؛ حتى تكاد تسمع إيقاع الألوان المتدرجة وتجرّب لأول مرةٍ أن تبصر الموسيقى ملوّنة.
الألوان عند نحلة قويّة تعتمد على المزج ما بين البارد والحار مستمتعةً بالتضاد بينهما ضمن اللوحة، وتفرد لبعض الألوان لوحةً خاصة، هناك عدد من اللوحات الزرقاء بالكامل تقريباً، لما يحمله هذا اللون من صفاءٍ روحي وطاقةٍ إيجابية، وهذه اللوحات على الرغم من أحادية لونها إلا أنها مليئة بالحركة والحياة التي يمنحها الأزرق عبر تدرجاته التي تملأ المساحة صخباً حتى تنسى البرودة والركود المفترض أن يحمله الأزرق، أو لوحةٌ حمراء كنارٍ مشتعلة تتأجج ضمن اللوحة ولا تحرقها.
التكوينات في هذه الأعمال تكره الخطوط، الألوان فقط تحدد شكل التكوين وحركته ويتحكم النور والظل بهذه الألوان، لتُخلق لوحاتٌ مضيئة بمعنى الكلمة.
هذه المراحل المكثّفة فنياً وجمالياً التي تمتدّ سنواتٍ طويلة (60 عاماً) يختصرها الراحل وجيه نحلة بقوله إنه يختصر حياته الفنية بضربة فرشاة على القماش، ويكمل بقوله: «بعد معايشة الفن مدة 40 سنة، يصل الفنان إلى مرحلة يتعاطى فيها مع اللون بطريقة مختلفة، وبعفوية مطلقة، تماماً مثل عازف البيانو الذي لا يعود يفكر أين يضع أصابعه، وتصبح خبرة الفنان ومكتنزاته وانفعالاته هي التي تتحرك فوق اللوحة. وهنا يلعب ذكاء اليد الدور الكبير، بمعنى أن اليد تصبح السباقة في الحركة، قبل أن يعطيها العقل الأوامر».
وجيه نحلة، رفع فرشاته عن اللوحة وغادر، بعد أن ترك لنا فضاءات واسعة نحلّق ضمنها ونشرد في الأثر الذي تتركه في أنفسنا.
٭ كاتبة سورية
بسمة شيخو