الفنان الإماراتي عبد الرحيم سالم: تكويناتٌ تهرب من الحكايات لتحبسها الصدفة في ألوان
[wpcc-script type=”8067da2c1541461c3e7681e3-text/javascript”]
عند النظرة الأولى تظهر اللوحات أمامك وكأنها وليدة المصادفة، كأنّ حظاً سعيداً قاد مسار الفرشاة، اختار الألوان وخلق تكوينات جميلة. وإذا رجعت بالبصر ثانية ستكتشف الصنعة المتقنة التي خلقتها ضربات واثقة بعفوية مقصودة وإدراك مكتمل للنتيجة المرجوة التي ستحمل على ظهرها تراثاً وقصصاً وأحلاماً أودعها إياها الفنان الإماراتي عبد الرحيم سالم.
أغلب القصص تلك أبطالها من النساء، كيف لا والفنان قد نشأ في عائلة نسبة نسائها عالية مقارنة بالرجال، مما جعله قريباً من معاناتهن ومشاعرهن وكل التفاصيل المجهولة بالنسبة لرجل عادة. لكنه لم يرسم أياً من النساء اللائي يعرفهن، بل كان يستحضر من خياله المرأة التي يريد، يحضر الرجل أحياناً إلى جانب «مهيرة»، التي يعرّفها سالم وفق ما قرأ في الكتب: «امرأة في الشارقة من خمسينيات القرن الماضي، ويقال إنها وقعت ضحية السحر فأصبحت مجنونة، كما يقال إنها كانت جميلة جداً، وكان هناك رجل يريد أن يقيم معها علاقة سيئة، فرفضت ذلك، فعمل لها سحراً، فتحولت إلى مجنونة… إذاً هي دفعت ثمناً غالياً لأنها قالت لا لرجل؟».
هذه الشخصية كانت لوحدها بطلات مختلفة لأعمال كثيرة، حتى أن الفنان أقام معرضاً كاملاً بعنوان «مهيرة» 28 لوحة، تحضر فيها مهيرة بصورٍ وطرق مختلفة تبعاً لرؤى سالم، نستطيع إذا اجتهدنا بالبحث أن نحصل على ثيمات مشتركة تجمع اللوحات التي تبنت فكرة «مهيرة» المرأة التي دفعت ثمن قوّتها غالياً. فالألوان تحمل الروح ذاتها والخطوط المنحنية المنسابة بالإضافة للملامح الضائعة والوجوه البيضاء الفارغة من التعابير. توسّعت الفكرة بعد أن كانت قصة محلية تراثية، وأصبحت نموذجاً يمثّل كل امرأةٍ تشبه مهيرة، وساعد في هذا غياب الملامح من اللوحات، بعد أن كانت الشخصيات واضحة مباشرة في البداية، إلى أن أصبحت اللوحة تجريداً لقصة شعبية يشار إليها عبر خطوط وضربات لونيّة تستحضر مأساة الحكاية، ثم تشرق لحظة العشق من خلال الجريان اللوني في عروق اللوحة، فهي حاضرة في روح الفنان وسيخلص لقضيتها التي أصبحت كونية. يقول سالم عن هذا: «مهيرة لا تزال موجودة كإيحاء داخلي، يشدني للتعبير عنها، فقد تلاشت تلك المباشرة التي عبرت عن تلك الشخصية لمصلحة الفكرة والموضوع، وأنا تفاعلت معها في المرحلة السابقة كإنسانة أحببتها، هذا الحب لا يزال مستمراً ولكن بصورة أخرى».
النساء في معظم الأعمال وحيدات أو موجودات ضمن ثنائيات نسائية، وضعية أجسادهن تعكس ترقباً وخوفاً، غالباً ما تكنّ منحنيات نحو الأمام، أو مقتربات من بعضهن البعض، وكأن هذه الحياة تفترس المرأة الوحيدة وتترك بقاياها اللونية في أسفل اللوحة، أو تتداخل الألوان فنشعر بحالة الارتباك والضياع التي تسكن هذه المرأة. نساء سالم بعيدات عن المواجهة، وجوههن دوماً تتجه إلى حافة اللوحة هاربة من مواجهة عين المتلقي، صاحب الكلمة الفصل في وصول العمل الفني إلى غايته المنشودة؛ منتظرات يسندن أجسادهن باتكاءة خفيفة على طرف الطاولة وكأنهن يمضين الوقت في انتظار ما يفتح لهن أفقاً واسعاً.
في أعمال سالم نجد ثنائيات الحياة المتناقضة تسير جنباً إلى جنب، الموت والحياة يظهرهما بالأبيض والأسود، الحب والمعاناة، الحضور والغياب. يمارس الفنان هذا الاشتغال بدقة فيقترب من الحياة باستحضار الموت، ويكمل الحضور بنشر الغياب، ويضيء الحب بتصوير المعاناة، فها هو استحضر مهيرة من عمق الموت والغياب والمعاناة لتكون بيننا أيقونةً نابضةً بالحياة.
الخلفيات في اللوحات مبهمة وضبابية الحضور، بضعة خطوط فقط ترسم ملامح البيئة التي تسكنها شخصيات سالم، فنجد مساحة مستطيلة تستحضر الشك بوجود نافذة بالقرب، أو باب، ونترك لخيالنا رسم الخارج بالشكل الذي نحب، مع تفاصيل لكرسي ومقاعد فارغة، أو نجد في الأفق ملامح بيوت بعيدة.
يستخدم سالم ألواناً قويّة (من الأكريليك أو الباستيل) أشبه بحبال تستطيع سحبك من شرودك، لتقف مشدوهاً أمام حيويتها وتذوب من حرارتها. فهي تضم الأحمر والأصفر والأخضر في عملٍ واحد أحياناً، ألوان صافية تارة ومتداخلة أخرى، وكأنك تشاهد الفنان وهو يحمل الفرشاة العريضة ـ هذا جليٌّ من ضرباتها الواضحة ـ وينقلها من لونٍ إلى آخر، سامحاً لهما بالتمازج الخجول، ليضربها على سطح القماش بقوةٍ وعنف، فيأتي الأحمر مخالطاً البياض، والأزرق مخالطاً الصفار، وكأنّ العين قد أدتْ مهمتها والآن سيقوم العقل بالمزج والتركيب ليشكّل المظهر النهائي للعمل. إلا أنّ هذا التعميم كغيره يحمل استثناءات، حيث نجد عدداً من أعمال سالم تطلّ بألوانٍ باردة (أزرق، كحلي، بنفسجي، أبيض…)، الغامق والفاتح هما الحاكمان في اللوحة وألوانها، بعيداً عن التدرج. يأتي الأسود في عدد من اللوحات كمساحة مصمتة تخبئ الخلفية وتطمسها، في حين لا يجرؤ على أن يكون أكثر من ظلالٍ بسيطة للألوان، أو عبارة عن تأطير لبعض الأشكال بقصد تحديدها. فالخط من العناصر المهمة لدى سالم لبيان الشكل الخارجي للتكوين، حيث يتنوّع وضوح الأشكال والتكوينات في أعماله تبعاً للمدرسة التي ينتمي إليها العمل، إذ أنّ سالم رسم وفق مفاهيم التجريد بعد أن تشرّب روح الأعمال. وكذلك وفق روح الانطباعية أيضاً التي تعطي السلطة المطلقة للون دون منازع، والتعبيرية الجديدة التي تعطي الأشكال حركتها وهذه كانت بارزةً عند الفنان، وكان معظم اشتغاله في منطقة رمادية ما بين التعبير والتجريد ملأها بالألوان وراح ينقشها بضربات فرشاته التي تشحن اللوحة بكم هائل من الطاقة الحركية، حتى يظن المتلقي أن الأشخاص في اللوحة يركضون، يدورون، يرقصون وهو يشاهد أثرهم لا أكثر. وقد ذكر سالم أنه دخل المدرسة المستقبلية أيضاً: «كان ذلك في معرض (قلم رصاص) في جمعية الإمارات للفنون التشكيلية عام 1993 وذلك باستخدام الخطوط والألوان، فكل خط في اللوحة يمثل زمناً مفترضاً، أما الإضاءة فتمثل أبعاد اللوحة». وفي بداياته طبعاً كانت الواقعية حاضرة، شأنه شأن معظم فناني جيله.
• ولد الفنان عبد الرحيم سالم خميس عام 1955 في إمارة دبي وتلقى تعليمه العام بمدارسها، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية، حيث حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة، تخصص النحت، عام 1981.
• بدأ حياته العملية مدرساً لمادة التربية الفنية بمدارس الدولة.
• ترأس مجلس إدارة جمعية الإمارات للفنون التشكيلية لأكثر من دورة وهو من المؤسسين لها وذلك في عام 1981، مع نخبة من الفنانين منهم: عبيد سرور، حسن شريف، حسين شريف، محمد حسين، د.عبد الكريم السيد، أحمد حيلوز، محمد يوسف، د. نجاة مكي، وغيرهم من الأسماء.
• له كثير من المشاركات بمعارض ومهرجانات الفنون والبيناليات، على المستوى المحلي العربي والدولي.
• فاز بالجائزة الأولى في بينالي القاهرة عام 1992، وبينالي الشارقة عام 1993، والمعرض الدولي في دبي عام 1994، وبالدانة الذهبية في الكويت عام 1999، كما نال جائزة الإمارات التقديرية في الفنون فرع (الفنون التشكيلية) لعام 2008.
بسمة شيخو