«البائع» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي: قيم زائفة وانهيار المجتمعات الوشيك
[wpcc-script type=”88e3ce2875e5cb218476a413-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: منزل على وشك الانهيار، وزجاج إحدى شرفاته تصيبه الشروخ، وعرض مسرحي ينتهي بموت بطله، هذا الذي طالما تغنى بأمجاد ماضيه، حيث يُلاحقه الفشل الآن في كل شيء، وقد مات من اليأس بعد أن تحقق من مأساته، وقبل أن يموت أمام الجميع. في هذه الأجواء يدور فيلم «البائع» للمخرج الإيراني أصغر فرهادي، المعروض حالياً في سينما «زاوية» في القاهرة. وكعادة فرهادي كاتب ومخرج الفيلم، تتم صياغة الأسئلة الكبرى من خلال تفاصيل حياتية صغيرة، كما في فيلميه السابقين «انفصال 2011» و«الماضي 2013».
هناك مُصادفات الحياة، التي عن طريقها تسير الشخصيات نحو مصيرها، كاشفة عن وجهها الحقيقي ونفسياتها المشوّهة، التي لطالما ادّعت بغير ذلك. لم تصبح التراجيديا كلاسيكية كما في السابق، حيث يسقط أبطالها في اندهاش مما فعلوه، لكن الآن تصاغ المأساة من تفاصيل بسيطة، ويُشاهد الأبطال أنفسهم في مرآة مأزق اجتماعي وحضاري ــ نفسي في الأساس ــ حيث يتم اختبارهم في قسوة عن منظومة القيم التي يحملونها، ويتغنون بها ليل نهار ــ الطبقة الوسطى في المجتمع ــ ليصبحوا في النهاية كبطل «وفاة بائع متجوّل» أمواتا منذ زمن وهم لا يدرون. حصل الفيلم على جائزتين في مهرجان كان الأخير أفضل سيناريو لفرهادي وأفضل ممثل لبطل الفيلم شهاب حسيني.
حكاية رجل في تابوت
ويلي لومان بطل مسرحية «وفاة بائع متجوّل» لأرثر ميلر، ينتهي أخلاقياً الآن أمام ولديه، وقد اكتشفا علاقته بأمرأة أخرى. هكذا يبدأ الفيلم، حيث تقام بروفة العرض المسرحي، ويقوم عماد بطل الفيلم بدور لومان. الذي يحاول مداراة الفضيحة دون جدوى، وقد انهار تماماً كشخصية مثالية في عين ابنيه. سُلطة المُثل العليا نشاهدها في اللحظة الأولى وهي تسقط، تماما كسقوط البناية التي يسكنها عماد وزوجته رنا. ليأتي المشهد الأخير في المسرحية أمام الجمهور، وهو الموت الحقيقي لبطل أرثر ميلر كما قدّر له أن تكون نهايته في تابوت، بعدما سعى طيلة حياته لامتلاك بيت، وبمجرد دفع قسطه الأخير تنتهي حياته، ويصبح البيت هو مقبرته، والشاهد الأوحد على تاريخ وحياة ضالة ــ بيت عماد ورنا الموشك على الانهيار، والمعادل لانهيار حياتهما ــ وبينما ينال عماد تصفيق الجمهور، يهرب إلى مهمة أخرى يتم الإيحاء بها، وهي سقطة رجل أمام أولاده وزوجته ــ سقطة أخلاقية ــ يُصر عماد على اتمامها، حتى ولو كان ضحيتها صعود روح رجل حقيقي، لا مجال أمامه لرحمة أحد.
الحلم الأمريكي والحلم الإيراني
أسئلة عديدة تبدو هنا، بداية من اختيار النص المسرحي الذي يقوم كل من بطلي الفيلم بتجسيده ــ هما نفسهما ويلي ولندا في المسرحية ــ وعلينا عقد المقارنة الدائمة الآن ما بين الحلم الأمريكي الزائف بتحقيق حياة متزنة ومُبهجة وإنسانية في النهاية، وحقيقة مآل هذه الحياة في حقيقتها. هذا الوعد المغرور يُقابله من ناحية أخرى الحلم الإيراني الآن، في ما يُصدّره لأفراده من امتلاك الحقيقة، ومحاولة صياغة العالم وفق رؤية السلطة الإيرانية وحلمها الوهمي. من هنا تتواتر التفاصيل لتكشف البناء الواهي، والموشك على السقوط، ومحاولة الجميع الفرار منه قبل أن يصبحوا كلهم أمواتا، كحال بائع ميلر المتجوّل. فالمازق أخلاقي في الأساس قبل كل شيء.
ألعاب المواربات الدائمة
لا يقين سيبدو في أعمال أصغر فرهادي، فقط مواربات في التصرفات والمواقف، ومن هنا لا توجد حقائق جاهزة يستنتجها المُشاهد أو يصل إليها في النهاية. الأهم هو أن تواجه نفسك من خلال مأزق حياتي/درامي تتم صياغته بمهارة.
الزوج والزوجة ينتقلان إلى بيت فوق سطح إحدى البنايات، مملوكاً لمدير الفرقة المسرحية ــ يعمل الزوج مُعلماً في إحدى المدارس ومُمثلا وزوجته في الفرقة ــ في البيت حجرة مغلقة فيها أغراض المستأجرة السابقة، التي تراوغ في الحضور لأخذ حاجياتها. يفض صاحب البيت الحجرة، ويستخرج أغراض المرأة، من أثاث وملابس إلى السطح. لكن حضور المرأة لم ينته، بل سيرسم تفاصيل الحكاية ويدفع إلى نهايتها. يعود الزوج ذات ليلة ليجد أثر دماء في الحمّام وحتى السلم الخارجي، فالضحية هي زوجته وقد أنقذها الجيران وذهبوا بها إلى المستشفى، وجهها مشوّه إثر الضرب الشديد. مَن الفاعل؟ وهل جاء للسطو أم وصل الأمر إلى مداه واغتصب المرأة؟ لتبدأ رحلة بحث الزوج، الذي تتكشف أمامه التفاصيل التي يجهلها شيئاً فشيئا. فالمُستأجرة السابقة بائعة هوى، وكثيرون يعرفونها ويقصدون بيتها دوماً. وهو ما كان يُخفيه عنه مدير الفرقة. وفي النهاية سيصل الزوج إلى الفاعل، وهو رجل تعدّى الخمسين كان على علاقة وهذه المرأة. يُنكر الرجل اغتصاب الزوجة، ولا تقر هي بذلك، فلا يجد سوى وسيلة وحيدة للانتقام، هي أن يجعل الرجل يعترف أمام زوجته وابنته وخطيبها بأنه كان يتردّد على بائعة الهوى.
القسوة والاذلال
كان المدرس ذات يوم يستقل عربة تاكسي، ومعه بعض الركّاب، تجاوره سيده في الكرسي الخلفي، وإلى جانب السائق يجلس أحد تلاميذه. تنبهه السيدة أن يبتعد عنها قليلاً، وبعد لحظات تطلب أن تتبادل مكانها وهذا التلميذ، تخرج غاضبة من سلوك هذا المتحرش، وهو يكاد يختنق وقد جلس التلميذ إلى جواره، دون أن يستطيع النظر إليه. فهل تحرّش بالمرأة بالفعل؟ لا نعرف، إلا أن الحقيقة الوحيدة هي شعوره بالعار. هذا الشعور نفسه هو ما شعره ويلي لومان أمام ابنيه، وهو ما أصرّ عليه المدرس والممثل، المنتمي إلى فئة المثقفين كما قيل، ممثل الفئة الاجتماعية حاملة القيم والوعي. يُصر في النهاية أن يشعر الجاني بمثل هذا الشعور أمام عائلته، أن يعترف. وكما مات لومان في النهاية في بيته، يصبح البيت الموشك على الانهيار هو مسرح هذه الأحداث، ما بين الرجل وزوجته والجاني وأسرته، وما الحوارات والمواجهات بين الزوج والزوجة التي كان لها أن تدور على خشبة المسرح، إلا أن تدور الآن وسط الجدران الآيلة للسقوط. يكاد العجوز أن تصعد روحه بالفعل وهو تحت رحمة نظرات الزوج التي تدفعه إلى الاعتراف، وسط امرأته وابنته، ونظرات الزوجة الشابه التي ترجوه أن يكف. فيكتفي باستدعاء العجوز إلى إحدى الحجرات، وصفعه، ليخرج الرجل ويسير بين أسرته خارجاً وكأنه يسير في جنازته، ويسقط عند أبواب البناية في انتظار عربة الإسعاف. فهل مات بالفعل؟ لا نعرف ولا يهم!
من الطبيعي أن ينتهي العرض المسرحي، لكن الهزل الحياتي لن ينتهي حتى ولو غادر أبطاله. هذا الهزل الذي يكشف عن نفسيات وعلاقات هشّة، مهما تظاهرت أو ادعت غير ذلك.
لا يمكن فصل الاجتماعي هنا عن السياسي. هناك سعي دائم لترسيخ سياسة الاذلال هذه، ولا يهم أن تنهار الحياة تبعاً لذلك أو أن تفقد إنسانيتها، ودون أن تستعيد لحظة من هدوء. هناك حالة دائمة من الشك القائم، يبدأ في بيت بين زوج وزوجة، مروراً بمجتمع وسلطة حاكمة، وصولاً إلى العلاقات بين الدول. فقط حادث عّرضي سيؤدي لسقوط الجميع، أسرع من سقوط جدران كانت تظن يوماً ما أنها باقية إلى الأبد.
ضمن عروض سينما «زاوية» في القاهرة
محمد عبد الرحيم