أعمال النحات السوري رامي وقاف: أنماط حياةٌ ورموز تتسلق السلالم البرونزية
[wpcc-script type=”18ca2369b6ab10cacf33e30b-text/javascript”]
وجها لوجه أمام علامات استفهام كبيرة يزرعها الفنان السوري رامي وقاف (مواليد القامشلي 1975 ودرس الأدب العربي، وامتهن النحت بجهد شخصي) بين منحوتاته ليصطاد بها المتلقي ويتركه حبيس مفاهيم متنوّعة كان قد طرحها في أعماله. بعض المنحوتات تشبه لعنة محببة، فهي تلتصق بخيالك ولا تستطيع إبعاد طعمها عن فمك مهما أكثرت من الماء.
فكيف ستنظر للزمن بعينٍ حياديّة وتراقب الساعة المصلوبة على جدار غرفتك دون أن تحاول سحب عقربها لتمتشقه، كما فعل بطلٌ من أبطال وقّاف وحمل مسننها ترساً، وكدون كيشوت راح يحارب الوهم مترجماً القول المأثور «الوقت كالسيف» بشكلٍ حرفي؟ لكن لا أثر لسانشو بالقرب، لعله يلاحقُ يوماً ضائعاً.
ستتخيل نفسك في منحوتة «الزمن» مكان الرجل الذي يتسلق درَجاً وعلى ظهره زمن ثقيل مرمّز بساعة رخوة تشبه ساعة دالي، يفلت الزمن من بين يديه مع عقاربها وأرقامها التي تتناثر أثناء الصعود، لا شبح للوصول يحوم بالقرب. هنا ترجع صورة سيزيف فربما أوقع صخرته وحُكم عليه بعقاب أشدّ، أن يحمل عمره على ظهره؛ لكن صخرته لم تبتعد فقد تربعت بين أكتاف منحوتة جديدة وكانت بديلاً عن الرأس، محمولة بين ذراعين. ولذلك تأويلات واسعة، فحملها بين الكفين يمنح القدرة على التخلص منها ساعة نشاء، إذن وجودها مرهونٌ بإرادتنا لكن ذلك سيخلّف فراغاً هائلاً لا يمكن التعايش معه؛ وأن يستعاض عن الرأس بصخرة ضخمة فهذا يعطي انطباعاً عن ثقل الأفكار التي تُحشر في رؤوسنا، وكيف أصبحت أحلامنا عبئاً ثقيلاً، ومن الممكن أن يرمز أيضاً إلى تحجّر التفكير وجموده وحدّته، كلها تأويلات طرحها جمعها وقّاف في منحوتة «أعباء».
الأُطر ثيمة متكرّرة في أعمال وقّاف هي الممر، نافذة/باب أو أنها القيد وربما الايديولوجيات الجامدة التي تحكم المجتمع، هي الغد أو الماضي، المرآة أو الصورة، ذكريات أو لقطات مستقبلية، اطرٌ منوّعة رصينة وحادة أحياناً كاطر اللوحات في الصالونات المترفة، وأحياناً لينة وكأنها من المطاط.
في منحوتته «الأيام» استخدم وقّاف الاطر ككناية عن الأيام وراح يوزّع الشخوص بحالات مختلفة، منوّعة وأحياناً مكرّرة كما هي حقيقة الحياة؛ فيوماً نعاني من الوحدة، وآخر نرقص بأوسع ما نستطيع، نتسلق ونعاني بآخر ونسترخي بجانب من نحب أحياناً…سبعة أيام بسبعة اطارات واليوم الثامن اطارٌ فارغ يقف وقّاف بجانبه.
الرجال حاضرون في أعمال وقّاف بشكلٍ واضح وقاس أيضاً، فهم المحمّلون بالمسؤوليات أو المثقلون بالهموم، الدّور المناط بهم في عالم وقّاف ليس سهلاً أبداً بل يتمحور حول الألم والمعاناة إلا فيما ندر، كمنحوتة «المايسترو» مثلاً أو راقص الميلويّة. أما النساء فهنّ كائناتٌ مرهفة وأيقونات جماليّة، يستعرضها أحياناً بأسلوب يشبه الآلهة اليونانية أو الرومانية، كما في عمل «سيدة القصر»» الذي يمثّل امرأةً عارية تجرّ وشاحاً وتستند على عمودٍ أثري ربما استدعاه رامي من ذاكرته الطفولية – فقد سكن وقّاف في تدمر لعدد من السنوات ليتنقّل بعدها بين أغلب المدن السوريةـ تماثله في الشموخ وتزيد عليه. وكذلك نجدها في منحوتة «راقصة المعبد» المحاطة بهالة من القدسية استبدلها النّحات بإطار خشبي يحبس جموحها ضمن جدران المعبد، المرأة هنا ملكة بتاج وصولجان، «حالمة» أو «موديل» وهي المنتظرة أبداً؛ وحين أخرجها رامي للحياة كانت الخالقة للموسيقى فهي عازفةً بيانو، كمان، قيثارة…. أو خالقةً للجمال ضمن فضاء أرحب فهي الراقصة بجسدها الطري، تتمايل مع ثوبها حتى ننسى تماماً أننا أمام كائناتٍ معدنيّة، تارةً نراقب تدريبها وتارةً نشاهد تحيتها للجمهور أو نكتفي فقط بتأمل فستانها المنتصب لوحده والحالم بأنثى مناسبة تخلق داخله.
الملفت للانتباه أن وقّاف يعتمد في معظم منحوتاته الأنثوية على أسلوب أقرب إلى الواقعية وإن كان مطموس الملامح، لذا فتستطيع تكوينها في خيالك وأن تختار للوجه ما تشاء، إلا أن الجسد يملك تفاصيله كاملة في الأغلب. لا سبب مقنع لإخفاء الجمال عنده، تأتي هذه الأعمال مع ملمسٍ ناعم يلائم طبيعة المرأة والصورة التي يسعى وقّاف لإبرازها ضمنها. أما أغلبية أعماله الأخرى فتذكّرنا بأعمال جياكوميتي المتطاولة، بأبعاد تميل إلى السريالية من ناحية طول الأطراف، مع ملمسٍ متآكل وكأنّ العمل يحتفظ بحركات أصابع وقّاف أثناء تنفيذه.
أعمال رامي وقّاف من البرونز الذي يمتزج مع الخشب أحياناً، وغالباً ما يكون ذلك ليس لحمل العمل فقط بل للتأكيد على أهمية حجم المنحوتة وإبراز بعض التفاصيل التي يرغب النّحات بتسليط الضوء عليها، خصوصاً عندما يكون حجم المنحوتة صغيراً كما في «عشق»، حيث لجأ وقّاف إلى إطار خشبي ضخم بالمقارنة لها.
نلاحظ أن مواد الأعمال وتقنيات التنفيذ تتشابه ربما مع فنانين آخرين، إلا أن البُعد الفلسفي للأعمال يُلبسك عباءة الفلسفة فور مشاهدتها، ويجعلك تفكّر بمعاني العمل برصانة وتحلله بطريقة مختلفة. فالتفاؤل هنا هو أن تجد أحداً يكون لك الطريق كما ذكر وقّاف، فعندما ينقطع سلمك في المنتصف سيملأه أحدهم حتماً لتكمل طريقك في الصعود، كما في «نحن الطريق إلى الوصول». الحرية ليست أعقد من أن تطلق تفكيرك مع وشاحٍ يرفرف لا يحكمه شيء، حرٌ بتصوير شكل الريح وترجمة أقوالها بلا رقيب، وذلك في عمل بعنوان «حرية»؛ والسفر حقيبة فارغة مع كيسٍ معبّأ بالذكريات يشدّ المسافر ويُثاقل خطواته، تلك هي الجاذبية الحقيقية.
لم يسلم رامي وقّاف من المأساة السورية، شأنه شأن كلّ السوريين، وعمل «الأيدي المتشابكة» يعكس الواقع مباشرةً فهو عبارة عن عمل مركّب من عدد من العناصر، أجساد متطايرة تمسك بأيدي بعضها البعض وتصنع سلماً نحو السماء، وبالقرب حطّت قذيفة هاون. أعمال أخرى تعكسها بشكل غير مباشر، فالرجل الذي يمسك المرآة يتأمل صورته القديمة بدهشةٍ واستغراب، فالسوري لم يعد كما كان، أو ربما يخاف من حاضره المحصور ضمن إطارٍ مشوّه هو المحيط والمجتمع، وكأن دهشةً قد سحبت هذا الإطار وشوّهته وتركت الصورة داخله عاريةً في مواجهة الحقيقة.
وقّاف يسعى جاهداً للهرب من آثار الحرب ويحاول أن يخلق فناً يكون للفن فقط، يحمل بعض الأحيان مرآةً تعكس الإنسان وروحه بأطوارها المختلفة؛ الجمال عنصرٌ لا يمكن إغفاله في أعمال وقّاف، وذلك لا يجعلنا نُغفِل الالتزام الذي يبديه تجاه محاولات هدم التراث وحرق الهوية الثقافية.
فها هو ذا وحيداً يحمل عبء إعادة إحياء التراث الإنساني الغائب، مركّزاً على القيم الجمالية التشكيلة التي خسرتها الحضارة الإنسانية بفقدان بعض التماثيل على مرّ السنين ولأسباب متنوّعة. لذا بدأ وقّاف بمحاولة إحيائها من جديد بعد دراسة تاريخ هذه التماثيل وقصصها منذ تكوينها إلى لحظة خساراتها، مع شرحٍ أكاديمي للأسباب الحقيقية لفقدانها. وكانت التماثيل التي حُطّمت يوم فتح مكة باكورة هذا المشروع، وسينتقل بعدها إلى إعادة إحياء التماثيل التي حطّمت في تدمر خلال سنوات المأساة السورية.
فقد قام وقّاف بنحت عددٍ من تلك التماثيل، قياساتها صغيرة (بارتفاع حوالي 50 سم) لا تقارب المقاييس الحقيقية للتماثيل القديمة، فالفكرة الأساسية لديه هي تصوّر فني لتلك التماثيل مستعيناً بمجموعة من أمهات الكتب، «الأصنام» لابن الكلبي، و«تاريخ مكة» للأزرقي، و«السيرة النبوية» لابن هشام، و«الكامل في التاريخ» لابن الأثير… وغيرها.
وبين أعمال وقّاف نجد «هُبل» منتصباً بيدٍ ذهبية (منحها تعويضاً عن يده التي خسرها في الحرب) ممدودةٍ نحو أكوابٍ سبع كانت قريش تستعين بهم للاستشارة بشؤون الحياة المدنيّة والحروب أيضاً. أما «اللات» فيراها وقّاف امرأة بتاجٍ على الرأس، و«العزى» امرأة رشيقة بثوبٍ أنيق تغزل الكلمات المسجوعة وترميها على أسماع الطائفين، ولم ينسَ الفنان أن العزى بالأصل كانت كعبة فصوّر كعبتها بالخلف منها وفوقها وشاحٌ يغطيها، وصولجان «ذي الخلصة» ـ محجّ التداوي لدى العرب قديماً ـ كان حاضراً.
ومثله يمسك رامي وقّاف إزميله ليصنع حياة وجمالاً للمستقبل، ويستحضر الماضي ضمن أيقونات، يدفعها نحو الغد.
بسمة شيخو