الفنان الأردني أيمن غرايبة: المرأة في أعماله تسترد قداستها الضائعة
[wpcc-script type=”e98df4a87441002773fd6579-text/javascript”]
أن تشّع أو أن تكون مرآة تعكس الضوء، وأن يلتهب جسدك بأهاليج النور، أو أن تتلون بخرائط مضيئة، وأن تسكن الظلمة وتبرز كشمعة متراقصة الشعلة، أو أن تتطرف وتستقبل النور من نافذةٍ شرقيّة في صباح يومٍ صيفي؛ هذه أمور متشابهة ومتداخلة عند نساء الفنان الأردني أيمن غرايبة.
خلال التجوال البصري بين لوحاته نلاحظ أننا في مخدع نسوي، كلّ لوحة غرفة خاصة تتسع لامرأة واحدة لا تقبل المشاركة، فهي تأسر الفراغ وتستأثر به، تتجول داخله وتتمدد هناك، تنشر رائحتها في المكان وتثبت ملكيتها للفراغ. هنا مملكتها لا ترضى أن ينازعها أو يشاركها بها أحد ولا حتى حبيب، فهو حاضر في مكان ما في الذاكرة، أو في وعد مستقبلي، لكن حضوره ليس قريباً مكانياً، فهي هنا آلهة الوحدة تملك كفاف عمرها من فرح وشجن.
النساء في اللوحات متشابهات، بإمكان أية امرأة أن تقف أمام لوحة غرايبة وتشرد قليلاً لتظن أنها أمام المرآة، فتشاهد ملامحها مزروعة بين الألوان والخطوط. الأجساد تشبه أحياناً المنحوتات، ويؤكد هذا إحساس وملمس وشكل الألياف التي استخدمها غرايبة لإضفاء روح جديدة على العمل. تطل المرأة بجسد محدد المنحنيات، مطموس الملامح أحياناً، وكأنها عنصر جمالي تزيينيّ. وفي أعمال أخرى نجد الحياة تسيل من تلك الأجساد، فتضج اللوحة بالحركة على الرغم من ثبات المرأة، لكن الوضعيات التي تتخذها تجبرنا على تصوّر أن هذه المرأة في جلسة تصوير. ننتظر أن تبدل الوضعية بفارغ الصبر، تلك المرأة الملوّنة تتأرجح بالوضعيات بين تأويلات مختلفة بعضها يدلّ على الانفتاح، فنجدها تقف بشموخٍ بجوار النافذة تستقبل الآتي بسعادة وتنتظره بتفاؤل، وبين معاناة تتجلى بارتمائها على الأرض. الراحة حاضرة أيضاً بتمدد الأنثى باسترخاء مغرٍ، وكأنها شهرزاد تشحذ الحكايات لتقطع بها الملل، وكأنّ المتلقي الآن هو شهريار يكمم الديك في جيبه، وينصت لتفاصيل القصة.
العري ليس ثيمة ثابتة للمرأة في أعمال غرايبة، وبعض نسائه يقفن عاريات كآلهة يونانية أو رومانية، محاطات بهالة من القداسة، وأخريات يرتدين الفساتين المكشوفة لئلا يُحجب الجسد كاملاً، وتغيب مظاهر الأنوثة التي حرص غرايبة على إبرازها.
لغة الجسد هامة للغاية، ليس في الحياة فقط بل عند تأمل أعمال غرايبة أيضاً. مثلاً، حركة الأيدي كانت مميزة في الأعمال، مرفوعة خلف الرأس وكأنها منحوتة لامرأة مستحمة، تعطي انطباعاً براحة شديدة أثناء انتظار ربما سيطول أو لن يأتي أصلاً. هذا الانتظار الذي يقاسمه المتلقي إياها بكل سلاسة، وضع اليد خلف الرقبة أو بالقرب من الصدر، إشارات لغواية تمارسها امرأة وحيدة لأشباح رجال يحومون حول ذاكرتها المكتظة بالقصص. والأرجل أيضاً تمنح إشارات مباشرة، فقطع الساقين أو لصقهما بلونٍ واحد يحملان من العجز ما لا تستطيع امرأةٌ تحمله، فها هي تقف مكانها لا تستطيع حراكاً، الرأس المائل للأمام إذعاناً أو ربما حزناً، يعارض شموخ الجبين المرفوع الموازي للسماء والقامة الشاهقة، يتنقل الرأس أيضاً بين يمين ويسار باحثاً عن الغد في دهاليز الهواء المكدّس في المكان.
في أعمال غرايبة أجواء شعريّة متقدّة، استلهمها من أشعار محمود درويش (قدّم أيمن غرايبة لأحد معارضه بمقاطع من قصيدة -عينان تائهتان في الألوان- للشاعر الفلسطيني الراحل)، فلا تكاد تقابل عملاً إلا وتسلبك الأجواء اللونية تفكيرك، وتأخذ بيدك إلى عالم أشبه بالحلم. فها هي الأضواء تنهمر بغزارة وكأنها حبالٌ مطريّة، تخلقها ضربات عامودية مستقيمة لريشة غرايبة، تنحني أحياناً لتصنع أقواس قزح كثيرة تتوزع في المساحة البيضاء حول المرأة وفوقها، تظللها من العتمة.
ضربات الفرشاة واضحة وعريضة تُظهر التفاصيل بشكلٍ متقن، وتنبّه المتلقي إلى صانع هذا العمل، من خلال تأمّل مسار حركات يده السابقة والواثقة التي خلقت هذا العالم الملوّن.
تبدأ بتذكر أبيات شعرية توحي بها تلك المرأة المستلقية أمامك، وتتساءل إن كانت تقرأ شعراً!
بعض الأحيان يَفرض عليك بيتٌ شعريّ نفسه، بعد أن تسلّلَ إلى اللوحة وتمدد هناك، يحمل معاني مباشرة تصل إلى النساء ضمن اللوحات قبل أن تعبر إلى الناظر المتلقي على الضفة الأخرى من العمل. التسلل إلى هناك ليس بسيطاً، فثمة كلمات تعثرت فتبعثرت قبل الوصول، ولم يبق منها سوى أحرف أو بعض كلمات تمددت بجانب النساء، وراحت تنافسها برشاقة وجمال يكاد يعادل كفة النساء الجميلات الحاضرات لدى غرايبة.
ولاستحضار الحرف العربي في هذه الأعمال تأويلات كثيرة، بعضها جمالي تفرضه مقاييس الحروف وانسيابيتها، وأخرى ثقافية تربط العمل بمدلولات راسخة تتعلق بالهوية العربية. وقد ذكر بيكاسو مرةً أن الحرف العربي هو أول العناصر التجريدية، لذا يكون وجوده ضمن الأعمال هنا داعماً للنَفَس التجريدي الموجود في بعض من أعمال غرايبة والذي بالطبع لا يستطيع أن يطغى على الروح الانطباعية التي تعجّ بها هذه اللوحات، والتي يظهرها في المرتبة الأولى حضورُ الإضاءة كأحد أهم المحاور التي تقوم عليها اللوحة، وكذلك عنصر مهم في توازنها من خلال تعديل ركود العتمة، بحركة النور، فنجد عدداً من اللوحات وكأنها مقسومة إلى قسمين ضوء وظلام، خير وشر، ماضٍ ومستقبل، أسود وأبيض.
الألوان الباردة هي التي تسكن معظم اللوحات، وكأن الفنان يريد أن يقول إن وجود المرأة في العمل كفيل بإذابة كلّ الصقيع المتكدّس في طرقات الأزرق والبنفسجي، الألوان الترابية أيضاً كانت حاضرة (بني، برتقالي..)، فهل يشبه الأرض أحدٌ أكثر من امرأةٍ عارية؟
أما الألوان الحارة (الأصفر، الأحمر، البرتقالي الفاقع..) فقليلة بشكل عام، تأتي عن طريق ضربات بالفرشاة وكأنها شعلة ترمى على كومة قش، تحمل الدفء لأجساد لا غطاء يدثرها. في مرات قليلة تكون حاضرة بقوة، فقد عانقت المرأة عبر ثوبٍ أحمر يشعل الأجساد المقابلة له، وينساب حريراً على تضاريس الأنثى المسترخية كقطة منزليّة، ومحاصرة سطحا مشتعلا من النيران الحمراء تكاد تحرق العمل بمن فيه.
الفسيفساء موجودة بشكلٍ خجول وبسيط، تظهر من خلال تجاور الألوان مع بعضها بعد أن تحبس في مربعات طول ضلعها بعرض الفرشاة، ثم تصطف بانتظام يعاكس المنحنى العشوائي كمجرى نهر والذي يضمّ داخلها الفسيفساءات اللونيّة.
أعمال أيمن غرايبة تصوّر المرأة العادية، لكنها تعيدها لقدسيتها، فهي المانحة للضوء، للحب، للحياة، هي محور المكان، وصوت الزمن الذي يتوقف صامتاً عند مدخل غرفتها.
بسمة شيخو