ضمن عروض برنامج «ألبوم عائلي» في «سيماتك» القاهرة … عُرس الجليل لميشيل خليفي: لم يزل صالحا لإثارة الدهشة

القاهرة ــ «القدس العربي»: يؤرخ العديد من المهتمين بسينما الأرض المحتلة أن فيلم «عُرس الجليل» أول فيلم روائي فلسطيني طويل، يحكي عن فلسطين من الداخل، ومن وجهة نظر فنان فلسطيني، بخلاف التجارب الوثائقية والروائية متفاوتة المستوى التي قام بها العرب أو الأجانب ــ وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، الذي أنجزه عام 1987 وحاز عنه جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان في العام نفسه. إلا أن أهم ما يلفت النظر في الفيلم أنه قدّم الحياة الفلسطينية والعلاقات الإنسانية بعيداً عن كليشيهات وأصوات نضالية صاخبة، يُدمنها أصحاب الايديولوجيات القاصرة. ويبدو أنه نهج اختاره ميشيل خليفي لمسيرته السينمائية، والتي تحققت في أعماله اللاحقة، التي أثارت من الجدل حولها الكثير، كان آخرها فيلم «زنديق» عام 2010. إلا أن أهمية «عُرس الجليل» تعود لكونه من أول الأفلام التي تناولت الحياة فوق الأرض المحتلة من خلال رؤية مغايرة للسائد والمألوف، كمحاولة لإيجاد صيغة جديدة تناقش طبيعة أوضاع العلاقات الإنسانية والاجتماعية في ظِل الاحتلال. هذه الرؤية لم تجعل المشاهد يقف على الحياد مع الفيلم، فإما يرفض مقولاته جملة، أو يحاول قبولها والتفاعل معها، أو على الأقل التفكير بشأنها. المشكلة أن الكثيرين يتعاملون مع العمل الفني، والسينما بوجه خاص، باعتبارها منشوراً سياسياً، وهي آفة تعاني منها السينما العربية، لأنها تواطأت طوال تاريخها مع السلطة السياسية، وكانت أهم أدوات الترويج لهذه السلطة أو تلك. لكننا في المقام الأول أمام تجربة فنية وجمالية ــ خيالية ــ لها معايير مختلفة تماماً، وتحتمل التأويلات المتباينة، في إطار العمل الفني، ومن داخل مفرداته التي يُعبّر من خلالها عن الفكرة التي يدور حولها. وقد أقام مؤخراً مركز الفيلم البديل في القاهرة «سيماتك» عرضاً لفيلم «عُرس الجليل» ضمن برنامج عروض «ألبوم عائلي». الفيلم سيناريو وإخرج: ميشيل خليفي. تمثيل: محمد علي العقيل، بشرى قارمان، مكرم خوري، إيلان شامي، يوسف أبو وردة، آنا أشديان، سونيا عمار، وجوليانو مير خميس. إنتاج: بلجيكا/فرنسا 1987(113 دقيقة).

ضمن عروض برنامج «ألبوم عائلي» في «سيماتك» القاهرة … عُرس الجليل لميشيل خليفي: لم يزل صالحا لإثارة الدهشة

[wpcc-script type=”916ebb0036acf709ab8e5688-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»: يؤرخ العديد من المهتمين بسينما الأرض المحتلة أن فيلم «عُرس الجليل» أول فيلم روائي فلسطيني طويل، يحكي عن فلسطين من الداخل، ومن وجهة نظر فنان فلسطيني، بخلاف التجارب الوثائقية والروائية متفاوتة المستوى التي قام بها العرب أو الأجانب ــ وهو العمل الروائي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، الذي أنجزه عام 1987 وحاز عنه جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان في العام نفسه. إلا أن أهم ما يلفت النظر في الفيلم أنه قدّم الحياة الفلسطينية والعلاقات الإنسانية بعيداً عن كليشيهات وأصوات نضالية صاخبة، يُدمنها أصحاب الايديولوجيات القاصرة. ويبدو أنه نهج اختاره ميشيل خليفي لمسيرته السينمائية، والتي تحققت في أعماله اللاحقة، التي أثارت من الجدل حولها الكثير، كان آخرها فيلم «زنديق» عام 2010. إلا أن أهمية «عُرس الجليل» تعود لكونه من أول الأفلام التي تناولت الحياة فوق الأرض المحتلة من خلال رؤية مغايرة للسائد والمألوف، كمحاولة لإيجاد صيغة جديدة تناقش طبيعة أوضاع العلاقات الإنسانية والاجتماعية في ظِل الاحتلال. هذه الرؤية لم تجعل المشاهد يقف على الحياد مع الفيلم، فإما يرفض مقولاته جملة، أو يحاول قبولها والتفاعل معها، أو على الأقل التفكير بشأنها. المشكلة أن الكثيرين يتعاملون مع العمل الفني، والسينما بوجه خاص، باعتبارها منشوراً سياسياً، وهي آفة تعاني منها السينما العربية، لأنها تواطأت طوال تاريخها مع السلطة السياسية، وكانت أهم أدوات الترويج لهذه السلطة أو تلك. لكننا في المقام الأول أمام تجربة فنية وجمالية ــ خيالية ــ لها معايير مختلفة تماماً، وتحتمل التأويلات المتباينة، في إطار العمل الفني، ومن داخل مفرداته التي يُعبّر من خلالها عن الفكرة التي يدور حولها. وقد أقام مؤخراً مركز الفيلم البديل في القاهرة «سيماتك» عرضاً لفيلم «عُرس الجليل» ضمن برنامج عروض «ألبوم عائلي». الفيلم سيناريو وإخرج: ميشيل خليفي. تمثيل: محمد علي العقيل، بشرى قارمان، مكرم خوري، إيلان شامي، يوسف أبو وردة، آنا أشديان، سونيا عمار، وجوليانو مير خميس. إنتاج: بلجيكا/فرنسا 1987(113 دقيقة).

عُرس تحت الاحتلال

يبدأ الفيلم بمأزق لا مفر منه، حيث يُصر مختار القرية على إقامة حفل زواج ابنه، في قرية تعاني حظر التجوال الذي يفرضه الحاكم العسكري. لا يستطيع الرجل الانتظار حتى تتغير الأحوال قليلاً، ليس تحقيقاً لرغبة ابنه في استعجال إقامة العُرس، ولكن لرؤية الرجل جده الذي زاره في المنام، وأوصاه بالإسراع في الأمر، وأن يكون عُرساً لا مثيل له. وتحت وطأة وحي حلمه هذا، يتقبّل حضور الحاكم العسكري الحفل ــ كما اشترط الأخير ــ حتى يأمن شر شباب المقاومة، والمناوشات اليومية التي سقط خلالها عدة أفراد من جنود الاحتلال، كان على إثرها فرض حظر التجوال، لتأديب أهل القرية. يثير هذا القرار أهل القرية من المناضلين القدامى، خاصة الأخ، الذي جاءت على لسانه العبارة القاطعة.. «لا عُرس بدون كرامة» إضافة إلى الجيل الجديد من الشباب، الذي لا يكف عن تدبير الخطط للتخلص من الحاكم العسكري، والأخذ بثأر قتلاهم وأقاربهم القابعون بسجون الاحتلال. إلا أن الرجل يقيم الحفل في ميعاده، ويأتي بالفعل الحاكم العسكري ورفاقه، ليصبح المكان عبارة عن مسرح كبير قام فجأة، يتم من خلاله استعراض حياة ثقيلة ومعقدة لشخصيات يحركها تاريخها وأحلامها المتباينة أشد التباين.

ما يُشبه المَسرَحة

تدور الأحداث خلال يوم واحد، يتم فيه استعراض الإعداد للعُرس منذ البداية، وحتى نهايته، بغض النظر عن استباقات زمنية قليلة غير مُبررة (عودة الرجل بالحافلة بعد مقابلته الحاكم العسكري، وتداخل ذلك مع محاولاته إقناع أهل القرية بإقامة العُرس في حضور الحاكم العسكري). من ناحية أخرى استطاع خليفي أن يصنع الحفل على عين مشاهديه، فالمكان الخالي أصبح يتشكل شيئاً فشيئاً أمام عين المُشاهد، وتوافد الحضور والاستغراق في الطقوس الكرنفالية أشبه بالعرض المسرحي الذي يتم إعداده بدقة متناهية. أما كواليس هذا المسرح فكانت تدور بها كل التناقضات والمشاحنات والعلاقات المتأزمة، التي يعرفها الجميع ويحاول كتمانها. وبين العرض المسرحي في الهواء الطلق، وكواليسه بين الجدران والغابات المتشابكة يتم سرد تفاصيل الحكاية. والغريب أن أصحاب الكواليس يظنون أنهم بمعزل عن الأعين، وحماستهم المفضوحة تزداد بوهم انتصار الخفاء الزائف هذا.. مشاهد الشباب الثوري ومحاولاتهم الكاريكاتورية للتخلص من الحاكم العسكري ورفاقه، العلاقات الجنسية المستترة بين أهل القرية، التسلط والقمع من الأب تجاه الابن، فض العروس لبكارتها بنفسها. لكنهم في النهاية ينكشفون ويواجهون أنفسهم في لحظة مؤلمة. وهو ما حاول المخرج كشفه، فالاحتلال في المقام الأول يتمكن من أرواح هؤلاء، ولابد من التحرر ومواجهة أزماتهم أولاً، أما مُحتل الأرض فمصيره إلى زوال.

الجد/الحفيد/الطفل

الحكاية كما أشرنا لم تبدأ من لحظة إقامة العُرس، وما هذا الحفل الصاخب إلا تتويجاً لتاريخ طويل، هذا التاريخ الذي يمتد إلى عدة أجيال، تمثلها شخصيات تتفاوت قوتها في مدى الحضور والغياب، وهم.. الجد:الذي يزور حفيده المختار في الحلم ويوصيه بإقامة العُرس، الأب: الذي يُعاني من الخرف وتداخل الأحداث، الابن: مختار القرية، ابنه الأكبر: عادل، الذي يؤدي دور العريس حسب خطة والده، والابن الأصغر: حسان، الذي يريد والده توريثه حكايته وتاريخه، الذي لم يتفوه به أبدا. والملاحظ على هذه السلسلة المتعاقبة لهذه العائلة، والممتدة زمنياً لتشغل حيزاً تاريخياً كبيراً، أن الفيلم أسقط ــ عن قصد بالطبع ــ الأب المُخرّف والابن الأكبر، فهما تجسيداً لصورة الأزمة/الاحتلال، وإن كان المُخرّف لم يزل يحيا تحت حكايات الاحتلال التركي والإنكليزي، وسلّم عقله لهما، متنازلا عنه طواعية أو كُرهاً لنصبح أكثر إنصافاً، إلا أنه لم يستطع تجاوز أزمته، فسقط عقله في الطريق. ويُماثله الجيل الذي يمثله عادل، الذي نظراً لفتوته ولحظته المرتقبة لتحقيق شرطه الذكوري ــ اجتماعياً ــ إلا أنه يفشل، ويعجز جنسياً، فلا يستطيع أن يحقق الشرط الذكوري في لحظته الأساسية ــ وفق تقاليد اجتماعية وطقسية بالية ــ بأن يفض غشاء بكارة زوجته. وسبب العجز هذا نفسي بالأساس، فالشاب يشعر بالخزي والعار من أبيه، الذي لا يهمه سوى تحقيق حلمه أو رؤياه في إتمام العُرس، حتى لو تكلف هذا حضور ممثل الاحتلال الحفل. فكيف يرفع وجهه في أصحابه؟، وكيف يتغلب على هذه الكارثة؟
المشكلة.. أن الفيلم يمهد من بدايته لهذا الموقف، لكن شخصية الشاب أدت طقوس الاستعداد للزواج بشكل طبيعي، فلم يبد أنه يحمل هماً للموقف، كما أن سعادته وسط الصخب الاحتفالي، لم تكن مصطنعة، لكننا تفاجأنا بموقفه لحظة مواجهته مع العروس داخل الحجرة. حتى أن تساؤله السابق عن كيفية حضور الحاكم العسكري حفل زواجه، ردّت عليه أخته ساخرة بأن عليه الاختيار ما بين الوطنية والزواج بحبيبته! فيبدو أن السيناريو كان مُنشغلا بهذه اللحظة/الحالة، أكثر من انشغاله ببناء تفاصيلها المنطقية. نجد إذن أن سقوط كل من العقل والرغبة لهذا الجيل، كان حتمياً، لأنه لم يستطع تجاوز أزمته أولاً،ليحاول بعد ذلك مواجهة المُتسبب في هذه الأزمة. ونعتقد أن الفيلم أراد تمرير هذه المقولة أو الحالة، فكان لابد من الضحك أو التأسي لموقف الجيلين المتعثرين، والذي نفاهما الفيلم من أي تواصل مستقبلي. فالعجوز الخرِف، الذي يجتلس دوماً كرسياً إما بجوار البيت أو بالحديقة ــ دوماً بالخارج ــ وقد خرج من الزمن والتاريخ معاً، يُعادله الشاب المحبوس داخل جدران بيت أو حجرة الزواج، التي أصبحت أشبه بسجن، لا يستطيع الفرار منه طوال حياته، بعدما قامت زوجته بالمهمة أمام عينيه الشاخصة، وقد ألقت بتساؤلها المزعج للعقلية العربية الموهومة دوماً بطقس إسالة الدماء ــ على المستوى الطقسي لأنها في حالة ضعف ــ «إذا كان شرف المرأة يُقاس بغشاء بكارتها، فأين يكمن شرف الرجل؟!».
ولنا أن نحاول الإجابة من خلال مفردات الفيلم واللقطات التي حاولت الإيحاء بالإجابة.. فبعدما بدأت الزوجة بطقسها الأول للزواج، وهو أن تقوم بتقديم قربان طاعتها، بأن تغسل أقدام زوجها بالماء، وبعدما بدأ الزوج في تلمسها، اكتشف عجزه، فدفعها بعيداً، وقد سال الماء فوق الأرض، واستلقى الزوج على السرير، منكمشاً، متداخلاً على نفسه، ورفع قليلاً قدميه عن الأرض، ليتساقط منهما الماء في قطرات قليلة. فهل يكمن شرف الرجل في الحكمة ورجاحة العقل واستشراف المستقبل؟ ربما!
أما المختار وابنه الأصغر والجد الأكبر الذي يأتي في المنام ويتلو وصاياه، فهم الأكثر حضوراً وتأثيراً في الأحداث، دون أن يصبحوا مجرد صدى لها، ويتخذون موقفاً من ردات الفعل. إلا أن المشكلة تكمن في أن التواصل بينهم، لابد وأن يعلو على الواقع، فالماضي المتحرر الذي يمثله الجد الأكبر، لا يتواصل مع المختار إلا من خلال زيارات الحلم، بينما المختار الذي يعيش الراهن ويختلف معه الجميع في رؤيته لما حوله، كلما يريد أن يحكي لطفله حكايته التي لن يسمع مثلها أبداً، يكون الطفل/المستقبل قد استغرق في النوم. فالرجل يقف بين عالم الحلم وعالم الطفولة، ومأزقه يتجسد في إيصال الرسالة من هذا إلى ذاك.

الذاكرة المتآكلة

«هذا كلب عجوز، لا أحد يهتم به، ولا أحد يُطارده… هذا كلب عجوز». هذه العبارات تم تداولها في مشهد وحيد جمع بين الجد والجدة، دائمي سرد الذكريات الخرِفة. فالجدة تحكي طوال الفيلم عن قصة حبها التي لم تتحقق، مع حبيبها الذي لم تتزوجه.. تحكي عن وجهه الجميل وابتسامته، ومغازلته لها، بينما الجد يحكي عن المحتل التركي ثم الإنكليزي، ومطاردته وهروبه وحياته القاسية.
إلا أنهما حينما يجتمعان معاً مصادفة، كل فوق كرسيه، في حديقة أشبه بمكان منعزل عن الأحداث، تردد الجدة خلف الجد عباراته السابقة.. كلب عجوز لا أحد يهتم به، يعيش في سكينة ربما، لكنها سكينة الإهمال. فالإهمال والنفي هما مصير هذا الجيل، وقد تعامل معه الفيلم بقسوة شديدة، تأكيداً لعدم قدرته على تجاوز المحنة، وإرهاصاً لمصير جيل جديد ينتظره هذا المصير. وبالفعل تتحقق رؤية الفيلم الآن في حالات كثيرة، لم تعد تدري عن الواقع شيئاً، ولم يعد لها مكاناً سوى الجلوس وسرد وقائع متداخلة، بكلمات متلعثمة ومبعثرة، لا تستطيع سوى إثارة الضحك والتأسي لأصحابها. هذا المصير هو الذي أخاف الكثيرين بعد مشاهدة الفيلم، وجعلهم يتهمونه بشدة بسيل التهم المعهودة، وقد أصابهم خليفي في مقتل، بعدما رأوا مصيرهم في مرآة ذاكرتهم.

الاغتراب

رغم التوتر الذي أحاط بالجميع عند الإعداد للعُرس، إلا أننا نلمح حالة من التفاعل بين أهل القرية وتفاصيل علاقاتهم بأصحاب الحفل، من مساعدات الجارات في إعداد الطعام، وإشراف والدة العريس عليهن، إضافة إلى تقديم الهدايا من الجيران، وأصدقاء «عادل» وصديقات عروسه «سامية»، وطقوس الرقصات والأشعار الغزلية والحماسية والتراثية للمنطقة. وقد تناسى الجميع في فرحهم هذا وجود ممثل سلطة الاحتلال ورفاقه، وهو الطرف الآخر الذي جاء ليُشاهد العُرس الفلسطيني، الذي أدهشه في البداية، حتى أن «المختار» حينما طمأنه أن كل شيء على ما يرام، أكد له الحاكم العسكري أنه في ظل هذه الأجواء يستطيع البقاء معه للأبد!
هذه البداية كانت عبارة عن الفخ الحقيقي الذي أعدّه السيناريو للحاكم ورفاقه، فالبقاء لأصحاب الأرض، وما هو إلا زائر غريب، مهما طالت إقامته، سيحين وقت رحيله. فالرجل يُطالع ما حوله في دهشة مستمرة، واضطراب وخوف أكثر من أهل القرية، فحينما يستخرج الرجل السكير شيئاً بجواره، يتأهب الجميع، لكنه يستخرج عروساً بلاستيكية مشوهة، يمنحها قبلاته الساخرة وسط ضحك الجميع. فالرجل غريب عن كل ما حوله، ولم يعتد البقاء في الهواء طوال هذا الوقت، وهو المحبوس دوماً في مكتبه، كما أنه بزيّه العسكري يتخذ صوت النغمة النشاز بالحفل، فدقات الطبول والرقصات والأناشيد المناهضة للاحتلال تصم أذنه، وهو لا يستطيع الفكاك مما يُحيطه، ولا يستطيع الاعتراض عليه. فعينه القلِقة على الدوام، وملامح وجهه التي يعلوها الغضب أحياناً، والتي تقترب من قِلة الحيلة وسط هذا الصخب، تجعل غربته تزداد، دون أن تسانده سياساته، أو أن تشفع له أسلحته.
حاول المخرج التأكيد على هذا المعنى من خلال تعبيرات الممثلين، وحجم اللقطات والمكان الذي يشغله حيز وجود وحدة جيش الاحتلال.. فهم إما في لقطات متوسطة أمام منصة الحفل، وأمامهم الطعام، وكأنهم يلتصقون ببعضهم البعض، بخلاف أهل القرية من المدعويين، الذين ينتشرون في كل مكان، فهم أصحاب الأرض والطقوس. وهم الأكثر عدداً كما يبدو في اللقطات الواسعة، والتي بالمقابل تكشف مدى الجدب والاغتراب الذي يحياه عسكر الاحتلال، فتبدو منصة الطعام أمامهم، وخلفهم يقف عدة جنود يمسكون بأسلحتهم، وفي الخلفية مساحة من الرمال تخلق من اللون الأصفر ولون الزي العسكري للجنود حالة من التنافر التام، في مواجهة أزياء أهل القرية والحديقة وأشجارها التي تظللهم، ويقيمون بينها حفلهم، بخلاف الشمس القوية المُسلّطة على الحاكم العسكري وجنوده، الشمس.. التي لم تحتملها إحدى المجندات، فسقطت في حالة إغماء، فحتى الطقس يطردهم من رحمته.
فمشهد المجندة الإسرائيلية التي أخذتها النسوة الفلسطينيات لإفاقتها، ونزعن عنها ملابسها العسكرية، وارتدينها جلباباً فلسطينياً وأدوات الزينة الفلسطينية، لتشعر الفتاة بالتماهي ــ المؤقت/الحلم ــ مع هذه الأشياء، هو دليل آخر على اغتراب الفتاة، التي رأت الأمر من وجهة نظرها فيما يدور حولها بالحجرة وكأنها عين أحد المستشرقين، الذي يرى الشرق بعين السائح… يتضح هذا في اللقطات التي كشفت عن تفاصيل الحجرة من جلابيب نسائية وأدوات الزينة، إضافة إلى الفتيات اللائي قمن بتزيين مجندة الجيش، فكانت لفتاتهن وابتساماتهن، وحتى ضحكاتهن الهامسة والمُختلَسة، بالضبط كما تصورهن لوحات فناني الاستشراق، نفسها وجهة النظر عن عالم سحري وسرّي يراه الغربي بعين خياله عن الشرق ومخلوقاته الحسيّات. مالم يفهمه عسكر الاحتلال ــ يشترك معهم مناضلو الصخب ــ أن المقاومة مسألة حضارية في المقام الأول، وهو ما جسّده الفيلم في مشهده الشهير «خروج الحصان من حقل الألغام»، بعدما فرّ أثناء لعب الطفل حسان وصديقه، وهبط إلى حقل الألغام، وتأزمت مشكلة إخراجه من الأرض التي كان يحيا بها حُراً من قبل. فالجندي لا يعرف سوى صوت الرصاص، الذي يؤمن بأنه الوحيد القادر على حل جميع المشكلات، إلا أن الرجل صاحب الأرض تبدو له المسألة بدهية، وهو ينادي على حصانه بصوته المنغوم، ليخرج إليه في النهاية وسط حيرة ودهشة جندي الاحتلال مما حدث.

وأخيراً..

يبدو أن الأزمة الأساسية تكمن في قصور الوعي بشكل عام بين الفلسطينيين وبعضهم، مما يجعل رؤيتهم المُشوّشة للقضايا هي سبب ضياعهم في المقام الأول ــ ينصرف الأمر إلى الشعوب العربية بالكامل ــ الذين لا يرون في الدفاع عن القضية الفلسطينية سوى النضال عن طريق نصف آلهة/الثوار، نازعين عنهم كل ملمح إنساني، متناسين صراعاتهم كبشر، وبالتالي إسقاط نوازعهم وما تحمله من سقطات في سلوكهم وأرواحهم. المسألة الصادمة إذن.. أن الفيلم نزع هالات التقديس الموهومة، التي يريد مناضلو النوايا أن يجسدوها في المواطن الفلسطيني، وهو تعويض نفسي عن قِلة الحيلة، بما أنهم يناضلون من الخارج.. التظاهرات/الكتابة في الدوريات والصحف/الندوات، والكثير على شاكلة هذه المظاهر. كما أن حالة الفصام تتضح أكثر في أن هؤلاء يريدون تفصيل الشخصية الفلسطينية على هواهم، فهو إما أن يحمل سلاحاً أو حجراً، وإما أن يكون خائناً، ولا بديل بينهما. فهم يريدونه على الصورة التي فشلوا في أن يكونوها أو حتى حلموا بها حول سُحب دخانهم الثوري.

ضمن عروض برنامج «ألبوم عائلي» في «سيماتك» القاهرة … عُرس الجليل لميشيل خليفي: لم يزل صالحا لإثارة الدهشة

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *