«شلاط تونس» لكوثر بن هنية: حياة المجتمعات العربية وانحطاطها
[wpcc-script type=”c17dd90d78f315af965f23ae-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي»: رجل مُلثم يقود دراجته البخارية، ويتخيّر كيفما اتفق نساء وفتيات يسرن في ملابسهن الضيقة، أو غير المُحتشمة ــ من وجهة نظره ــ وفي بساطة شديدة يقترب منها ويجرحها أسفل ظهرها بآلة حادة. هذا الشكل من إرهاب الحض على الفضيلة يمارسه هذا المجهول لينشر الرعب في قلوب المُنفلتات ــ حسب مُعتقده ــ ويمضي إلى حال سبيله، وفي حالة من الرضاء التام عن فعلته. هؤلاء المهووسون لم يقتصر وجودهم على بلد معين، فقد انتشروا في مصر والأردن وتونس. ومن خلال واقعة حقيقية حدثت عام 2003 في تونس، تتخذ المخرجة كوثر بن هنية منها موضوع فيلمها الطويل الأول «شلاط تونس» ــ لفظ «التشليط» في العامية التونسية وبلاد المغرب العربي يعني.. الجرح السطحي بمشرط أو آلة حادة ــ وهو إنتاج تونس ـ فرنسا ـ كندا والإمارات العربية المتحدة عام 2014، وتم عرضه ضمن أسبوع أفلام «أسيد» في القاهرة.
الفاعل المجهول
الحوادث المتكررة التي افتعلها حارس القيم المجهول في تونس أثارت حالة من الرعب والفزع بين النساء، حتى أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وقتها اهتم بالأمر، وأصر على وجوب البحث عن هذا الرجل وأشباهه. وبالفعل انتفضت الشرطة التونسية وكثفت جهودها، فما كان إلا القبض على جميع مَن لديهم سوابق إجرامية، وحاولت تلفيق التهمة وإلصاقها بهم، وأن تتم التضحية بأحدهم حتى يعود السلم والاستقرار الاجتماعي المفقود. ما يزيد على العشر سنوات حتى تستطيع المخرجة إنجاز فيلمها، وكان لسقوط دولة بن علي الأثر الأكبر على إتمام الفيلم. فالدولة لابد أن تبدو للجميع في حالة من السعادة الدائمة.
الفاعل المتطوّع
تبدأ المخرجة بنشرة أخبار مُفتعلة ــ غير حقيقية ــ نسمعها عبر الراديو، بضرورة البحث عن (الشلاط) المجهول للجميع.. «قوات الأمن تمكنت من إلقاء القبض على (الشلاط) بعد أن بلغ عدد ضحاياه 11، فقد أولى الرئيس بن علي أهمية قصوى لتلك القضية، ما يُثمِّن عنايته باستتباب الأمن وملاحقة كل من تُسوِّل له نفسه المساس بذاك الأمن». وتعرف بن هنية بوجود المدعو «جلال» في أحد السجون، وهو المُتهم في القضية، وتفشل في التصوير معه، وتبدأ في البحث عن شخص آخر يقوم بتمثيل الدور، وبينما يتقدم الكثيرون، يدخل جلال المشهد، ويُعرّفها بنفسه بأنه هو الذي تبحث عنه، وأنه الوحيد الذي سيقوم بتصوير الفيلم.
حارسو القيم
الأحداث المهمة في الفيلم هي ما يشبه حالة الاستقصاء التي تقوم بها المخرجة، التي تظهر بشخصها، وتسأل الناس في الشارع عن رأيهم بما فعله الرجل، لتأتي الإجابات في معظمها مؤيدة للفعلة، حتى أن أحدهم يرى أن المرأة إن خرجت من بيتها متبرجة، وفي ملابس غير محتشمة، فلا جناح عليه إن اغتصبها. بينما آخر يرجع ذلك إلى القيم الدينية، التي توجب عقاب مثل هؤلاء النسوة بالضبط كما فعل الشلاط الشهير.
جلال وألعاب «الفيديو جيم»
شاب يعيش مع أمه، سارق معهود لدى الشرطة وسجلاتها، فكان من السهل الإتيان به ومحاولة تلفيق التهمة له، ويُشاع بين الناس أنه بالفعل هو الذي فعلها، ولكن الأدلة لم تكن كافية، فيخرج جلال، ويعيش شهرة أنه هو الفاعل، وينفي عن نفسه تماماً ما يُقال بانه مريض أو يُعاني حالة نفسية، وكل هذه الأقوال الساذجة. لتبدأ الحالة الكاريكاتيرية التي يعيشها المجتمع، فبما أن العاطلين ومتسكعي الشوارع ومدمني جلسات المقاهي والمخدرات، في دولة تتركهم لمصيرهم، فهم الذين يحددون مصير الأخريات، ويمارسون سلطة مفقودة عليهن، وبالتالي تعويض المكبوت الجنسي والنفسي من خلال معاقبتهن وجرحهن. وما من صديق جلال إلا استغلال الموقف وتسليعه، فيقوم بتصميم لعبة من ألعاب «الفيديو جيم»، تمثل كيف يقوم الشلاط بجرح النساء في الطريق، يسير سريعاً بدراجته البخارية، وعلى جانبي الطريق تسير النساء، وكلما أصاب واحدة وتعالى صراخها، يزداد رصيده في اللعبة، ولكن إن وجد امرأة ترتدي الحجاب فلابد أن يتركها ويتخطاها، وإن جرحها سيهبط رصيده ومن الممكن أن يخسر في النهاية.
عقاب الله
كان لابد من مُباركة اللعبة الجديدة، فيظهر رجل دين يبارك الموقف بأكمله، وأن اللعبة تتماشى مع الدين، وبالتالي الرجل جاهز بالآيات الدالة وتأويلها حسب هواه، من الضرب بالجلابيب على أجسادهن، وما شابه من آيات العِفة، وبالتالي يتفق رجل الدين تماماً مع (العواطلية) في ضرورة عقاب النساء المتبرجات، وما اكتساب المزيد من الدرجات في اللعبة هو بالضبط ما يماثل اكتساب الحسنات في الدنيا.
ما بين الأمريكي والصيني
أمر آخر يتطرق إليه الفيلم المتشعب، الذي يناقش أو يترصد علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعات موصومة بالانتماء العربي، ومضروبة بهوس التدين المزعوم. جلال الآن يحاول الزواج حسب رغبة أمه، ويتعرف إلى إحدى الفتيات، لكنه وهو غير الواثق في أي فتاة ــ يفتقد الثقة في نفسه بالأساس ــ كان يريد التأكد من عِفتها وبكارتها، فعثر على شركة تستورد جهازاً أمريكياً جديداً يكشف عن عذرية الفتيات، وتأتي صاحبة الشركة التي استوردت الجهاز الرائع والفارق في المجتمع، فلا تستورد غشاء البكارة الصيني، وتساعد بالتعتيم على الفضائح، بل تكشفها، حتى لا يتورط الرجل مع فتاة (مُستَعمَلة) من قبل! ويحاول جلال التحايل على الفتاة، حتى يستطيع أن يثبت براءتها، فهي مُدانة ومشكوك بها من الأساس، إلا أن الفتاة تكتشف الخدعة وتهجره. فكرة الشرف المفقود هي ما تؤرق الرجل بالأساس، وتجعله يعيش التوتر والخوف، بل والرعب، هذا المعنى الذي تم اختصاره ــ للاستسهال وانعدام المسؤولية ــ في جزء من جسد المرأة. هناك عبارة تتداخل مع ما يحدث جاءت على لسان بطلة فيلم «عُرس الجليل» للفلسطيني ميشيل خليفي، حينما سألت زوجها.. بأن شرف المرأة الكامن في جسدها كغشاء يُقيّم حياتها وسلوكها، إذن فأين يكمن شرف الرجل؟
حالة الانحطاط
لا يقتصر ما عرضته كوثر بن هنية على تونس، فالأمر يشمل المجتمعات العربية بكاملها، إنها حالة ومنظومة تفكير، المرأة هي دوماً الشر الأكبر، وهناك العديد من النصوص الدينية والسُنة المحمدية تؤكد ذلك، وبالتالي أصبح الرجل عديم الثقة في ما حوله ونفسه بالطبع يرى المرأة هي العدو الوحيد، والعار الذي يتجنبه. لا تختلف هذه الحالة من رجل نال قسطاً من التعليم، مقارنة بآخر يجلس في المقاهي ويعمل بالمصادفة، أو في النهاية يعيش كبطل شعبي ــ مثال جلال ــ مُسجّل في دفاتر وسجلات الشرطة. تضافر الديني والسياسي والاجتماعي هو ما خلق هذه الحالة، التي تركت الجميع لمصيره، وبالتالي جاءت أفعالهم وأخلاقياتهم انعكاساً لما يعيشونه، كبت وقهر عام على جميع المستويات، وربما كان الربيع العربي مُتنفساً، حتى يشعر الإنسان بآدميته، ولكن هذه اللحظة تم القضاء عليها في سرعة شديدة، فهناك التهديد الأكبر إن استمرت، وهو رأس السلطة والنظام القائم.
التوثيقي والروائي
حاولت بن هنية أن تجمع ما بين التوثيق ــ كشكل ــ والسرد الروائي للفيلم، حركة الكاميرا المهتزة، خاصة في المشهد الافتتاحي، وهي تتفاوض على التصوير أمام السجن، وتتشاجر مع رجل الأمن، إلا أن الرجل ليس من رجال الأمن، بل مجرد ممثل، وهو ما يؤكد وجهة النظر بأن الفارق ما بين الوثائقي والروائي يكمن في الشكل الفيلمي، وليس نوعه، الشكل التنفيذي للفيلم، من حركة كاميرا وتأطير الكادر السينمائي، وأخيراً الأداء التمثيلي، وقد نجح الممثلون وقبلهما المخرجة في اختلاق أداء طبيعي، وكأنهم لا يمثلون، وهي نقطة تحسب تماماً للفيلم والقضية التي تبناها. فالواقعة حقيقية، ولكن الأشخاص يفتعلون ويعيدون المواقف المُتخيلة، بخلاف كل من المرأتين الحقيقيتين وهما ضحيتا الشلاط بالفعل، والعبارة التي ستبقى في الذهن، والتي جاءت على لسان إحداهن .. «فالجرح اندمل، لكن حالة الخوف لم تزل قائمة».
ضمن عروض أسبوع أفلام (أسيد) في القاهرة
محمد عبد الرحيم