أعمال الفنانة اللبنانية ريم الجندي: أيقونات ترقص على أنغام البوب آرت
[wpcc-script type=”e3388de43fdac953c2527f27-text/javascript”]
لم ينته عصر الأيقونات، ما زالت تُرسم إلى اليوم وما زالت محافظةً على هالة من القدسية تجعلك تقف بإجلال أمامها حتى لو لم تكن على معرفة بصاحب الوجه المتربع وسط الأيقونة، فكيف الحال بك إذا عرفت أن الفنانة اللبنانية ريم الجندي قد نفخت في صور ألوانها وأعلنت قيامةً مصغرة للضحايا السوريين.
في معرضها المعنون بـ»قيامة» 2015 والذي قامت فيه بتجميل الضحايا قبل عرض صورهم في أيقوناتٍ على الجدران، أزالت الندوب والكدمات عن وجوههم ومسحت الدماء التي كانت تستر ملامحهم كمنديل أحمر، ليعيدوا لأذهاننا وجوه الفيوم وهي لوحات مرسومة على الخشب بألوانٍ من الشمع المثبت بالحرارة، وقد وجدت في منطقة الفيوم في مصر وتعود إلى العصر البيزنطي كما يُرجّح، تبين رسماً للشخص المدفون في التابوت وعادة ما يكون شخصية مهمة.
عن الضحايا تقول الجندي: «أراهم ملفوفين بأكفان مرتجلة، شراشف أتمت وظيفتها النهائية، وأتذكر وجوه الفيّوم هؤلاء ليسوا وجوهاً من وجوه الفيّوم. ليسوا متخيلين أيضاً ولا هــم على الصورة التي رأيتهم عليها تماماً. ما أراه في وجوههم سابق لصورتهم الأخيرة، سابق للكدمات وآثار العنف والتعذيب. أراهم الآن أحياء، محفوظين في لحظة جمالهم القصوى. جمال الضحية».
الوجوه واضحة المعالم إنما سحنتها لا تشي بأن أصحابها سوريون. لون البشرة أقرب إلى البني ـ وهو اللون الذي تستعمله الجندي غالباً لشخصيات أعمالها- وكأنهم من افريقيا، أما الملامح فتمنحهم جوازات سفر مكسيكية، ويظهر ذلك جليّاً في لوحة «في انتظار طفل» والتي تصوّر سيدةً عارية سمراء البشرة نبصر حملها بشكل واضح وننتظر الطفل معها كما انتظرته هي خلف القضبان. الملامح المتنوعة هي أسلوبٌ لعولمة الضحية ربما أو الحفاظ على إنسانية الموضوع والبعد عن تسييسه، وهذا الحرص واضح من خلال اختيار عناوين اللوحات أيضاً والتي كانت تؤخذ من العناصر المتواجدة في الخلفية: «سمك»، «قمر»، «حديقة»… دون التطرق إلى أسماء الضحايا أو أسماء الأماكن التي قتلوا فيها.
رسمت الجندي هذه الوجوه بعد تجربة شخصية معهم، بعد أن التقتهم من وراء الشاشات وانطبعوا في ذاكرتها كلعنة لا يمكن الخلاص منها إلا بنقلها على الورق، كيف لا وهي من كانت تصوّر بفنها تفاصيل شخصية تعيشها كمعرضها، «أوقات زيارة بينلوب»، 2001، الذي تناولت فيه تجربتها مع المرض فكانت اللوحة أشبه بغرفة المشفى. جسدٌ متعب وخلفية اللوحة -التي تدرسها الجندي بعناية ـ كانت شاشاً وإبراً مستعملة. استحضار المرض إلى سطح اللوحة هو تهديدٌ مباشرٌ له، وراحةٌ أيضاً للمريض الذي أخرج الوجع وصلبه على اللوحة كما كانت تفعل فريدا كالو حين رسمت لنفسها صوراً عديدة مع مراحل مرضها المختلفة. ثم كان معرض «أشياء بسيطة» 2003؛ ومن ثم معرض «طريق المطار»، 2008 والذي صوّرت فيه محاولتها للهجرة إلى كندا مع عائلتها، فكان أشبه بلقطاتٍ ثابتة من فيلم وثائقي.
وعن معرض «رجال» الذي أقامته سنة 2010، أقرّ النقّاد بأن الجندي تبتعد عن مواضيع لوحاتها في هذا المعرض، تتنازل عن دور البطولة وتزيح البقعة الضوئية بعيداً عن تفاصيلها الشخصية حيث أنها صوّرت نماذج متباينة عن الرجال. وكأنها أرادت تأليف كتاب توضيحي لأنواع الرجال، فكان الرجل الخارق في لوحة «سوبرمان»، ورجل انتحر ربما أو سقط سهواً كأي خطأ مطبعي في «أحد السكان»، ثم مجموعة من الرجال الرياضين بشورتات في «فريق الملاكمة»، ومجموعة أخرى من الرجال في «مسرح الجريمة»، ولا يغيب طبعاً رجل الدين في لوحة «تانيت» ولا الرجل المسترخي في «الكنبة الحمراء». وفي 2012 أقامت معرض «شجرة العائلة» وذلك بالإضافة إلى العديد من المعارض الجماعية في الوطن العربي وأوروبا وأمريكا.
لوحات الجندي ذوات وجوه متعددة كحجر النرد، تُقرأ دوماً بطريقة شعرية وفلسفية أيضاً، من خلال التأمل بالعناصر التي تستحضرها خاصة في خلفيات لوحاتها باهتمام شديد لتكسبها بعداً رمزياً وجمالياً. ففي لوحة «الجدة الكردية» نجد شخصيات الحكايات، التي تقصها على الحفيد الراقد في حضنها، تصطف على الجدار بزيها الكردي الرسمي، ولكم أن تصوغوا حكاية مناسبة. أما في لوحة «رحلة عائلية إلى حدود غزة» فالعناكب السوداء بشباكها المتداخلة قد احتلت فضاء اللوحة وكأن السيارة الصفراء قد وقعت ضحية عنكبوت كبير، سيلتهم الحقائب الملوّنة والمسافرين أصحاب الوجوه الكالحة أو النظرات المتفاجئة. لوحة «1948» لا تحتاج إلا أن تتأملها جيداً لتعرف ما جرى ذاك العام، والمكان تفصح عنه أغصان الزيتون الأخضر الذهبية والتي تحملك إلى فلسطين حتماً. ولوحة «عائلة السورية» مرسومة بتخطيطات مبسّطَة باللون الأسود والخلفية خيامٌ بيضاء مكدّسة إلى جانب بعضها كحبات السكر، أما الخيار الثاني للخلفية فهو أن تترك لونا مصمتاً يتمدد هناك لوحده باسترخاء هر في يوم حار، أو بصحبة عناصر بسيطة لا تستطيع تشويه صفائه.
وبهذه الطريقة هنالك تعميق لأسلوب البوب آرت الذي اشتغلت الجندي وفقه في معظم لوحاتها، متأثرةً بالفنان آندي وارهول. وقد رسمت لوحة بعنوان «عزيزي آندي» في نوع من الامتنان المبطن لهذا الفنان صاحب الأثر الطيب في مسيرتها الفنية. وقد مزجت البوب آرت مع مدارس أخرى، مثل الفن الأيقوني المقدس، أو المدرسة الواقعية التي ننتبه إلى وجودها مع التفاصيل الدقيقة للثياب في بعض الأعمال وأحياناً في الوجوه باعتبار أن لبعض الأعمال أصلٌ فوتوغرافي.
الألوان واضحة وقوية (أحمر، أخضر، أصفر، أزرق) والمساحات اللونية المتدرجة نادرة الاستخدام، والتدرج غالباً ما يكون بأسلوب التبسيط والذي يحمل حدوداً واضحة بين الدرجة اللونية والأخرى التي تليها ذات الحواف الحادة وكأنها قطعت بالسكين. تلك الألوان هي من يحدد الأشكال والمنحنيات التي تتبع لها أجساد العناصر فليس هناك خطوط تؤطر الأجسام وتحبسهم ضمن تضاريسها.
ريم الجندي فنانة تسعى إلى التجديد من حيث المواضيع، متنقلةً ما بين جدران بيتها إلى حدود بعيدة يوصلها التلفاز وقنوات الانترنت إليها، ومن خلال مزج المدارس القديمة بالأفكار المعاصرة وكذلك بأسلوبها في التلوين. فالجندي تعمد إلى كسر كل ما هو نمطي وممل، وتجمع قطعه لخلق فسيفساء جديدة تعمل وفقها، بالإضافة إلى الفيض العاطفي الكبير الذي يملأ كل جزء من لوحاتها، والأبعاد الروحانية التي تُخلق أحياناً من بعض الأشكال كالزخارف والأيقونات مثلاً، أو من خلال المواضيع والعناوين التي تدمج المقدس بالدنيوي في صرخةٍ رافضة للواقع الذي نعيشه بشكلٍ مسموع يصل إلينا من نظرات أبطال لوحاتها الصامتين باتزانٍ شديد حد التكلّف.
• ولدت في بيروت عام 1965، وحازت على دبلوم دراسات معمّقة في الفن المقدس من جامعة الروح القدس في الكسليك عام 2007، بعد نيلها شهادة الليسانس في الفنون الجميلة من الجامعة اللبنانية الأمريكية عام 1991.
•حصلت على منحة من «تراينغل آرت» كفنانة مقيمة في «فيرمونت ستوديو سنتر» في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2005.
• نالت تنويه لجنة التحكيم في بينال الإسكندرية في مصر عام 1997، وجائزة الشيخ زايد للتخرج من الجامعة اللبنانية الأمريكية عام 1991.
بسمة شيخو