العرض المسرحي «الخروج عن النص»: محاولة الخروج عن أسر السلطة بإغواء الفن
[wpcc-script type=”6408db4b5b3e7ffd621c3f1c-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: القرن الثاني عشر، وفي إحدى كنائس باريس، يقوم كل من برناردو ومارسيل بتمثيل قصص وحكايات الكتاب المقدس للجمهور المؤمن. الكلمات نفسها كل ليلة، فقط لتأمين حياتهما وإطعامهما بالكنيسة. برناردو الذي يقوم بدور آدم، ومارسيل الذي يجسد دور حواء، فلم يكن للمرأة الحق أو حتى تخيّل أن تؤدي دوراً على المسرح. قصة الخلق والإغواء هي افتتاحية العمل المسرحي «الخروج عن النص» الذي تم عرضه على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية في أكاديمية الفنون، ضمن العروض المسرحية المشتركة في المهرجان القومي للمسرح المصري، والذي تمتد فعالياته حتى الثامن من آب/أغسطس. العرض من تأليف أحمد نبيل، وإخراج كريم سامي. أداء كل من أحمد ماجد، فؤاد عبد المنعم، وهاجر عفيفي، وديكور أحمد مورو، وإضاءة أحمد كشك، وموسيقى أحمد نبيل، وملابس أماني عاطف، ومنفذا الإخراج محمد ناصر ونادر الجوهري.
المسرح وتاريخه
ممثلان يحلم كل منهما بالخروج من أسر عرض الكتاب المقدس كل ليلة، أمام التائبين والعائدين دوماً إلى حظيرة الرّب، وفي لعبة ذكية يتم الربط بين تاريخ ونضال المسرح وبين الحرية التي ينشدها الإنسان في كل وقت، لحظة الإغواء هذه لم تكن بإيعاز من حواء المُفترضة، ولكن لحظة إغواء كامنة في عقل الفنان، الذي يريد الخروج من أسر السلطة الدينية إلى الأرض، من الجنة والركون إلى ما يُقدم فيها من طعام وأمان، لكنه سجن كبير، الهبوط إلى الأرض، وحاولة تقديم نصوص مسرحية عن العالم والناس العاديين. هذه التضحية تأتي نتائجها سريعاً، فالقطيع/الجمهور لم يعتد مثل هذه العروض، وبالتالي يُلاقي كل من برناردو ومارسيل أشد اللعنات، والضرب بالتفاح العطن. لكنهما وبعد صراع بينهما يواصلان النضال بلا جعجعة أو مقولات مُستهلكة. حلم التمثيل الحي، الحقيقي، موضوعات وشخوص حقيقية، ليست في عالم آخر، وبلا مباركة قس أو رجل دين، ليصبح المسرح بالفعل تعبيراً عن الحياة وروحها، وليس في حياة موعودة للأتقياء التعساء.
حواء الجديدة
وبين عالم المشردين هذا والموصومين تتخلق فكرة الممثلة، الدور النسائي الحقيقي، الذي يمكن أن تجسده فتاة بالفعل. لصة مشردة، لا تجد المأوى إلا في أفكار برناردو، فقد وجد ضالته أخيراً في ميشيل. وبهذا ستكمل الحقيقة المسرحية، ستصبح امرأة بالفعل هي مَن تؤدي دورها فوق خشبة المسرح. لم ينس النص مواكبة الكتابات النقدية، فها هو الناقد الشهير يكتب عن الانحلال العام الذي أصاب المسرح، بوقوف فتاة تؤدي دور امرأة، ليتساءل مارسيل عن الخلل في الأمر، فهل من الطبيعي أن يؤدي رجل دور امرأة، أم تؤدي المرأة دورها بالفعل! آراء الناقد هنا تمثل قطاعاً كبيراً من المتمسكين بأفكار بالية، سنتنهي حتماً وتنهار. الحالة تمتد لتصبح تاريخاً مسرحياً انقضى، ورحلة في سبيل حرية الفن والأفكار الجمالية، التي لابد من محاربتها أولاً، والوقوف أمامها بكل قوة، المسألة توحي بمدى التهديد الذي يواجهه هؤلاء من «حرّاس الجهل» والفضيلة المزعومة.
كتابة التاريخ
يُشير العرض إلى أن هذه الشخصيات تم حذفها من تاريخ المسرح الفرنسي والعالمي ــ تاريخ تطوره ــ عن عمد، ذلك لكونهم أول من ثار ضد تقاليده وموروثاته، وانتقلوا به من الغرف والساحات التي ترفرف عليها بركات الرب، إلى الشارع ومخلوقاته البائسة. ورغم النجاح في الحد من السلطة الدينية والخروج عليها، إلا أن النهاية المفجعة كانت عند التعرض إلى السلطة الزمنية، التي يمثلها الملك الفرنسي وقتها، عندما قام الممثلون بأداء عرض مسرحي يسخر من الملك، فما كان أن تم تنفيذ حُكم الإعدام في الحالمين الثلاثة.
إغواء الفن
من شجرة المعرفة والخلود التي قيل عنها في الكتاب المقدس، وتناقلتها باقي الأديان الإبراهيمية بعد ذلك، حتى اكتشاف الفن ــ الخارج من رحم الدين بالفعل قبل الأديان الرسمية ــ أصبح الفن هو حالة الإغواء الإنسانية، المرتبطة بالإنسان ومدى وعيه، هذا الوعي الذي يستعرض كافة الأفكار ويعالجها بسلاح يرعب الثوابت المزعومة، والمتمثل في السخرية. السخرية من الجميع، ومن الفنان وحاله في المقام الأول. فإن كان التهديد وتنفيذه بالطرد في الحكاية الموسومة بقداستها، فالمعرفة والخلود الآن لا يتحققان سوى بالفن، لذا لا يتورع الفنان أن يدفع روحه ثمناً لهذا لخلود.
تقنيات العرض
رغم جديّة وصعوبة الفكرة التي يناقشها العرض المسرحي «الخروج عن النص» إلا أنه نجح في خلق حالة من الكوميديا المعتمدة المفارقات الحوارية بين الشخصيات، خاصة ميشيل وبرناردو في بداية معرفتهما، وكذلك هي ومارسيل عند تدريبها على أداء أحد المقاطع المسرحية. هناك صوت الراوي الآتي من الخارج، والذي يُعلق على الحدث أو يسخر بدوره مما يحدث. إضافة إلى ذلك كان للاستعراضات الراقصة والأغنيات الدور الأكبر في صياغة فكرة العرض، بخلاف الديكور والإضاءة. صندوق الدنيا المزعوم، وتغيير حالات مواجهة المجتمع، المتمثل في رجال الدين بداية، ثم الملك وما يمثله من سلطة ممتدة في النهاية، استطاعت التخلص من المتمردين/الممثلين، دون القضاء على أفكارهم، التي انتشرت بعد ذلك، وقد أصبح انتقاد السلطة أياً كان شكلها من أبسط ما يكون. دون أن ننسى أننا نتحدث عن الغرب وعالمه.
عصورنا الوسطى
وإن كان العرض يتحدث عن الفن المسرحي وتحولاته في القرن الثاني عشر، وفي مجتمع أوروبي. فالحديث يبدو نبشاً في حادثة تاريخية ــ حقيقية كانت أم مؤلفة ـ وإن سلط الضوء على هؤلاء، إلا أن المؤكد أن غيرهم الكثير قـــد لاقى المصير نفسه بشكل أو بآخر. هناك حالة دائمة من الشك والمعاناة التي ينظر بها المجتمع إلى مثل هؤلاء، وقائمة من التهم يتصدرها جُرم التحريم، والخروج عن النظام المرسوم بدقة من قِبل السلطة وأشباهها. فإن أشار المؤلف ونسج نصه من وحي تلك الفترة، إلا أنه في الوقت نفسه يؤكد على ما نحياه اليوم، وليصبح التاريخ المسرحي هو تاريخنا نحن، والذي نحياه بالفعل. نحيا في عصر انتهى، فما نعيشه هو مسرحية هزلية سيئة، لا تليق حتى بجمهور صبور ينتظر أي تغيّر أو تحول درامي في النهاية. فما نستشعره هو أن الجمهور أصبح فوق خشبة المسرح، وفقط ما يقوم به الممثلون لا يعدو تذكيرا بما نعيشه اليوم.
قد يكون العرض انتصر وانفلت من أسر السلطة الدينية وقتها، والتي كانت تمثلها الكنيسة، إلا أن الأمر توقف وانتهت حياة الأبطـــال شنــقاً عندما تعرضوا لسلطة الملك. فبأي وجه يمكننا أن نقارن لحظتــنا الراهنة بحالـــة وقعت في القرن الثاني عشر، لم نستطع أن نخطــو هذه الخطـــوة، فلم نزل أسرى الأفكار الدينية المتسلطة، والجهل الاجتماعي المقصود، وفوق كل ذلك سلطة سياسية تعمل جاهــدة في تنميط الناس، ورسم نص من التعالـــيم لا يمكن الخروج عليه، بالمرصاد تقــف لكل مَن يحاول التفكير في ذلك، مؤامــــرة كبيرة وتحالفا أكبر بين هــذه الأشكال المرتعبة في الأساس من أي فكرة تحاول كسر هيبتها أو المساس بها.
محمد عبد الرحيم