«سيوة المصرية»: واحة النبوءات ورحلات الاستشفاء

القاهرة ــ «القدس العربي»: «اقترب الأفق وتباعد، وتوهجت قمم الجبال والصخور والرمال. تعالت صلوات بلغة غاب فهمها عنه، وترامت موسيقى من أمكنة علوية. اختلط ضوء الشمس بضوء القمر حتى غلب النهار. هطلت الأمطار في غير موعدها، فأنقذت الإسكندر ــ والجماعة التي صحبته ــ من العطش.

«سيوة المصرية»: واحة النبوءات ورحلات الاستشفاء

[wpcc-script type=”2ae3cd8ee125c5d27b809b5b-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»: «اقترب الأفق وتباعد، وتوهجت قمم الجبال والصخور والرمال. تعالت صلوات بلغة غاب فهمها عنه، وترامت موسيقى من أمكنة علوية. اختلط ضوء الشمس بضوء القمر حتى غلب النهار. هطلت الأمطار في غير موعدها، فأنقذت الإسكندر ــ والجماعة التي صحبته ــ من العطش.
علا الموكب غرابان لينبها إلى الأخطار التي تضمها الصحراء، تقدمه أفعوانان يصدران صوتاً تمضي القافلة في أثره، حتى ظهرت الكوبرا، سيدة الحياة، أمام الموكب، وقادته إلى معبد آمون. سور من الحجارة، حول فناء مستطيل. الهيكل يحتوي على عدد من الأبهاء والقاعات. أقيمت على عمد، تفضي ــ بواسطة حجرتين ــ إلى المحراب الأقدس، قدس الأقداس. المحراب حجرة تحيط بها كتل صخرية هائلة. في وسطه الزورق المقدس، مصنوع من الخشب الموشى بصفائح الذهب، على مكعب من الخشب. ما كاد الإسكندر يدخل محراب الإله آمون، حتى تناهى صوت الإله يناديه بالقول :
«يا بني». سأل الإسكندر، وأجاب الإله بحركات يديه، وإيماءات رأسه، وقال :
«إنك ابني، وإنني أعطيتك الشجاعة، وأمرتك أن تحضر لزيارتي. إنني أمنحك السيطرة على كل البلاد، والعالم تحت قدميك». (بتصرّف من رواية غواية الإسكندر لمحمد جبريل). هكذا قطع الإسكندر الطريق الطويل والشاق حتى يطمئن قلبه وتتأكد له تكهنات إنه من نسل الآلهة. ذهب إلى واحة في عمق الصحراء اشتهر كاهنها بمعرفة الغيب، ورسم مستقبل المخلوقات».

معبد الوحي

هذه الحادثة التي زادها الخيال من التفصيلات، حدثت في «معبد الوحي»، وسُمّي بذلك لقدرة كهنة آمون على التنبؤات بالأحداث، وقد أقيم في عهد الأسرة السادسة والعشرين على يـــد الفرعون أحمس آمازيوس، وهو أحد أبناء سيوة من الأمازيغ الذين حكموا مصر.

جبل الدكرور

وهو الجبل الذى يتوسط واحة سيوة، وله خمس قمم وتسمى باللغة السيوية باسم (نصرا) ويقام في جبل الدكرور الاحتفال السنوي الذي يعبر عن التصالح بين قبائل سيوة في شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، كما استخدم جبل الدكرور كمحجر لبناء معبدي الوحي.

جبل الموتى

يُقال إنه تم اكتشاف الجبل صدفة، فقد عثر عليه أهالي الواحة عن طريق الحرب العالمية الثانية، للاختباء فيه واكتشفوا المقابر الموجودة في داخله، ويبلغ ارتفاعه 50 متراً، ويرجع تاريخ هذا الجبل إلى الأسرة الـ26، ويمتد للعصر البطلمي والروماني، حيث يجمع الجبل الكثير من المقابر، التي من بينها مقبرة سي آمون والتي تتمتع بمجموعة من النقوش البارزة وتضم رسما يمثل الآلهة نات وهي واقفة تحت شجرة الجميز، وكذلك وجود مقبرة التمساح وسميت بهذا الاسم نسبة للرسوم المنقوشة عليها وهي عبارة عن شكل تمساح أصفر اللون يمثل الإله سوبيك. وهو يعد بذلك واحداً من أشهر المزارات السياحية في سيوة. وهو ليس جبلا بالمعنى، وإنما عبارة عن هضبة عالية يتوسطها شكل مخروطي، ويتكون من هضبة مرتفعة تعلوها خمس قمم أخرى، ويوجد فيه كهفان يرجع تاريخهما لأوائل العصر البطلمي، ونسجت حوله العديد من اﻷساطير مثل احتوائه على كنوز أحد ملوك سيوة قديما يدعي «إبريق». كما تداولت قصة قديمة تربط بين جبل الدكرور ومعبد الوحي وجبل الموتى وهي وجود نفق تحت الأرض يربط بين المواقع الثلاثة. ويحتوي في باطنه على مقابر تظهر فتحاتها كأفواه اﻵبار وفيه درجات حجرية تختفي تدريجيا لتعطي انطباعاً مخيفاً. يضم الجبل خمسة حمّامات متخصصة لعلاج مرضى آلام الروماتيزم والروماتويد والتهاب الأعصاب.

شالي

ثالث جبال الواحة، ويعني باللغة السيوية «البلدة»، وهو عبارة عن هضبة مرتفعة تعلوها قمتان، واحدة في أقصى الغرب والثانية في الشرق. تحوي الهضبة 6 آبار للمياه العذبة، وبنيت عليها العديد من المنازل البسيطة الصغيرة والضيقة بغرض حمايتها من هجمات البربر وبدو الصحراء.

تتلي

هذا المُسمى أو التعبير «تتلي» هو ما يُطلقه أهالي واحة سيوة بلهجتهم السيوية أو الأمازيغية على المرأة داخل مجتمعهم المغلق. ونظراً لطبيعة هذا المجتمع من حيث السُلطة المتمركزة في يد شيخ القبيلة ونظام الأعراف القبلية، فالسلطة الذكورية وما يستتبعها هي المسيطرة، وبالتالي لا تجد المرأة دورها إلا من خلال بيتها، مسؤوليتها تتحدد داخل نطاق المنزل فقط، وهو ما استتبع العديد من القيود التي تعيش في ظلها. كالحرمان من التعليم والزواج المبكر. فلا يكملن تعليمهن الثانوي، ولا يلتحقن بالجامعة بالتبعية. ولا سبيل لهن إلا العمل في مشروعات خاصة بهن، تتباين ما بين صناعة الأواني الفخارية والمنسوجات والسجاد اليدوي. وإن كانت هناك فتاة جامعية، فالأمر يرجع لوضعها الطبقي، بكونها ابنة أحد شيوخ القبائل الموسرين والمتعلمين.
من ناحية أخرى يذكر حسين الرفاعي فى كتابه سيوة، الصادر في العام1931 أن البنات كن يتزوجن في سن التاسعة أو العاشرة، سواء كان الزوج شيخاً كبيراً، أو شابا، لكن رفع الحكومة في العهد الملكي سن زاوج البنات إلى السادسة عشرة، أدى إلى الحد من تلك الظاهرة. وليلة الزفاف ترتدي العروس سبعة فساتين مختلفة فوق بعضها البعض، الأول أبيض شفاف، والثاني أحمر شفاف، والثالث أسود، والرابع أصفر، والخامس أزرق، والسادس من الحرير الوردي، والسابع الخارجي يكون مُطرزا ومشغولاً.
وعندما تضع السيدة السيوية مولودها تستلقي على «كليم» مفروش على الأرض، لمدة أسبوع أو عشرة أيام، وتأكل السمك المملح، كتقليد موروث، تيمنا بولادة «سيدي سليمان» إمام السيويين وأحد أهم الشخصيات التاريخية في الواحة.
كما يعتقد أهل الواحة أن المرأة التي يموت زوجها تجلب الحسد، لذا لا تغادر بيتها ولا تظهر طيلة الأربعين يوماً التالية للوفاة، ولا تتزوج قبل مرور عام على وفاة الزوج.

الجانب الديني

كمعظم أهل الصحراء يبدو الجانب الديني لديهم يمثل أهمية كبرى، مع الإبقاء والحفاظ على أشكال الموروث الديني القديم، والذي يتجلى في تبجيل أحد اولياء الله ــ دخلت الواحة الإسلام في العصر الفاطمي ــ وهناك عدة مظاهر لتمجيد الوازع الديني، ويبدو في العمارة، فهناك العديد من المساجد، إلا ان أشهرها هو «المسجد العتيق»، الذي يعود تاريخ بناؤه إلى العام 500 هجرية، ويقع في مدخل قلعة شالي الأثرية، وهو من أكبر المعالم الأثرية المتواجدة في الواحة. وكذلك يوجد المسجد الكبير، الذي تم وضع حجر الأساس له في عهد الملك فؤاد. والأخير له قصة أخرى إذ تم تدمير الجزء الأكبر من معبد آمون ــ الوثني ــ والذي تم تشييده في عهد الأسرة الـ 30 على يد نيكتانيبو الثاني، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، وقام حاكم سيوة، بتدميره باستخدام البارود للاستفادة من أحجاره في بناء المسجد الكبير، ومركز الشرطة، ومبان إدارية أخرى.
كما توجد طريقتان دينيتان في سيوة، هما أقرب للتصوف: «الطريقة السنوسية» و»الطريقة المدنية»، وهما ساهمتا في لم الشمل بين أهل سيوة الشرقيين والغربيين وقضتا على النزاعات والخلافات بينهما. ويعد المذهب المالكي أهم مذاهب الواحة، تبعاً لانتشار اعتماده مذهباً أساسياً في شمال افريقيا.
أما أشهر الأولياء على كثرتهم ــ يوجد في الواحة مقابر لما يُقارب الـ 35 ولياً صالحاً ــ هو «سيدي سليمان»، الذي كان رجلاً شديد الورع والتقوى، وكان قاضياً يحكم بين أهل الواحة بالعدل. ولابد من الأساطير حول الرجل العادل، فيقال إن أمه قبل أن تلده كانت تريد أكل السمك (تتوحّم) فجاءت يمامة ووقفت فوق شبّاكها، تاركة لها سمكة. وهذا هو سبب العادة المُنتشرة في سيوة حتى الآن، حيث تأكل أم المولود سمكاً، خاصة لو أنجبت ذكراً، تيمناً بوالدة الولي المرحوم.

حكاية الجن والناي المعدني

تعتمد موسيقى واحة سيوة على آلة الناي بشكل أساسي، والناي هنا ليس الناي الخشبي المعروف، لكنه ناياً معدنياً، ويرجع ذلك إلى أن الجن يهاب المعدن، والأصوات المنبعثة قد تستدعي وجوده واستحضاره، ولكل مجتمع موسيقاه وفنه، فكان الناي المعدني هو العاصم من خطر الجن.
أما الغناء فعبارة عن مقطوعات جماعية، أغلبها طقسي يرتبط بالمناسبات الكبرى، كالميلاد والزواج والحصاد. إضافة إلى الأغنيات الخاصة بحالات الحب والوجد، والاغتراب، وفي أغلبها أغنيات تحمل شجن الصحراء وعمقه.
يذكر أن أهم مؤلف وضع في موسيقى واحة سيوة، قامت به الباحثة الألمانية برجيت شيفر، والصادر في العام 1936، وترجمه المؤلف الموسيقي جمال عبد الرحيم، وراجعته سمحة الخولي، وصدر منذ فترة عن المركز القومي للترجمة في القاهرة.

سيوة

عُرفت سيوة قديماً باسم «بنتا»، هذا الاسم وجد في أحد النصوص المنقوشة على جدران معبد إدفو. كما تقول بعض المصادر إن اسم سيوة المصرية جاء من كلمة «سيخت آم» وتعني أرض النخيل. ثم أطلق عليها بعد ذلك اسم «واحة آمون»، واستمرت تحمل هذا الإسم حتى عصر البطالمة الذين أطلقوا عليها اسم «جوبتر»، ثم أطلق عليها العرب اسم «الواحة الأقصى».
وتعد البوابة الشرقية لبلاد الأمازيغ وفي تلك المنطقة المعزولة حافظوا على تقاليدهم وعاداتهم، وخاصة لغة أهلها (تاسيويت (التي هي إحدى لهجات الأمازيغ. ويتكلم أهل سيوة باللغة الأمازيغية باللهجة السيوية إضافة إلى لهجتهم المصرية الحديثة. فسكانها الأوائل كانت جماعات متفرقة من البربر، يتكلمون لهجة مختلفة عن بربر الشمال الافريقي، وكانوا يعبدون الآلهة المصرية وعلى رأسهم الإله آمون، حتى ظهرت المسيحية وبدأ عصر الاضطهاد الديني. لكن المسيحية لم تنتشر بين الأهالي واستمروا يعبدون الآلهة المصرية حتى دخلها العرب في القرن التاسع الميلادي ومنذ ذلك الوقت دخل الإسلام سيوة ولم تخضع للحكم الإسلامي إلا في العصر الفاطمي.
الواحة هي أحد منخفضات الصحراء الغربية وتقع بين خطي طول (26،12 و25،16) شرقاً، وخطي عرض (29،6و29،34). في أقصى الجنوب الغربي لمحافظة مرسى مطروح، حيث تبعد قرابة 26 كيلو متراً عن أقرب نقطة حدودية مع ليبيا وتبعد عن القاهرة مسافة 830 كيلو متراً تقريباً. يوجد فيها أكثر من 220 عين ماء وتصرف مياه العيون حوالي 25.00 : 5.000 متر مكعب في اليوم، ويبلغ تصريف العيون كلها حوالي 185.000 متر مربع يوميا وتبلغ المساحة الكلية لمنخفض سيوة 1088 كم مربع ويتوسطه أربع بحيرات مالحة هي بحيرة المعاصر شمال شرق الواحة وبحيرة الزيتون شرق الواحة وبحيرة سيوة غرب مدينه شالي وبحيرة المراقي غربا.
في العام 2002 أعلن عن جزء كبير من واحة سيوة محميّة طبيعية مفتوحة، بلغ مساحته 7800 كم مربع، من أصل 55 ألف كم مربع وهي مساحة الواحة الكليّة، حيث تضم الكثير من البحيرات، وما يزيد عن ألف نبع مياه، أشهرها «عين كليوباترا»، أو «عين الشمس»، كما أسماها المؤرّخ هيرودوت، ويقال إن الملكة كليوباترا قد استحمت فيه حين زارت الواحة، وهو حمّام سباحة طبيعي، تم تصنيعه من الحجر، مياهه تجدد نفسها تلقائياً، من خلال الينابيع الساخنة المحيطة.
كذلك تشتهر الواحة ببساتين الزيتون وحدائق النخيل، ما يُقارب 300.000 شجرة نخيل و70.000 شجرة زيتون، فضلاً عن العديد من بساتين الفاكهة الأخرى، وتزرع فيها أنواع قليلة من المحاصيل، وهي المكان الأمثل للاستشفاء من العديد من الأمراض، بفضل المياه والرمال الساخنة والمناخ الصحي.

«سيوة المصرية»: واحة النبوءات ورحلات الاستشفاء

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *