الفن الإسلامي مكتفٍ بذاته مكتملٌ بدلالاته
[wpcc-script type=”6c270103142c4cd8d6374126-text/javascript”]
أول ما يُذكر الفن الإسلامي تتنوّع ردة الفعل لدى المتلقي، وأولهم يملؤه الذهول، فأي فن هذا وسط كل هذه التعقيدات والشروط والتحريم؟ الفن ملازم الحريّة وصديق دربها، وينكر بذلك الفن الإسلامي من عين أصله. أولئك انشغلوا مع مَن انشغل بالقشور كما ذكر الفيلسوف يعقوب بن اسحاق الكِندي، الذي اعتبر أن النصّ الديني يخاطب العقلانيين بمعان باطنيّة عميقة، ويخاطب النقلانيين بمعان ظاهرية تتماشى مع فكرهم السطحي؛ ناهيك عن أن التحريم لم يكن بنصٍ قرآني صريح إنما بحديث نبوي يقول بهلاك المصورين ـ وقد قرأت مرة أن هذا اللفظ «المصوّر» كان يطلق أيام الإسلام الأولى على من يصنع تماثيل بقصد العبادة.
لن ندخل في هذه التفاصيل لكن لنركز على ما يغيب عن فكر دعاة هذا الرأي أيضاً. أن الفنان الواقعي مقيّدٌ أكثر من أي مشتغل بالفن الإسلامي، فتجده لا يرسم إلا ما يراه فقط، فهو لا يملك سطوة على خياله وجلّ ما يفعله هو نقل الواقع ومحاولة حفظ مشاهد منه يُخشى ضياعها. يقول غوستاف كوربيه أحد رواد المدرسة الواقعية: «لا أستطيع أن أرسم ملاكاً لأنه لم يسبق لي أن شاهدته»، في حين تجد الفن الإسلامي بعد أن امتص العقيدة الإسلامية قام بتجسيد فكرها من خلال تحوير الواقع وتجريده لأبسط حلة، مع المحافظة على جماله وإكسابه مفردات جمالية جديدة تحفل بوجود أسس الفكر الإسلامي، الوحدة، التوازن، الاستمرارية والأزل.
فكانت الزخرفة الإسلامية وهي ما يحصر أصحاب الرأي الثاني الفنَ الإسلامي بها، مع سخرية مبطّنة تعكس جهلهم بخصائص الزخرفة وتعقيداتها. فهي رسومٌ هندسية ذات بنية معمارية تعتمد على جماليّة الخطوط وتقاطعاتها، تتركها أحياناً تتمدد بهدوء كشيخٍ ميت وتتلوى وتتعانق أحياناً أخرى كأفاع راقصة على ترنيمة ناي، تنتصب لتحمل السمو على أكتافها، ولا تُترك لتغرق في النوم والاستلقاء حتى لا تعكس حالةً من الركود والجمود على الناظر، فتراها تنام وتصحو بخطوط أفقية مقطّعة. تلك الأشكال تعدّ الركيزة الأولى لما يحمله الفن الإسلامي من معان روحية تكون خافية على المشاهد البعيد عن الاختصاص الفني والفلسفي، شأنها شأن انعكاسات باقي الفنون التي ينشغل الرائي بجمالياتها الشكلية بعيداً عن الخلفيات الأخرى. فمثلاً النجمة السداسية ببساطتها هي كون مؤلف من مثلثين متراكبين تمثل الكون بسمائه وأرضه، وأما النجمة الثمانية فهي عبارة عن مربعين الأول يرمز للجهات الأربع والآخر يرمز للعناصر الأربعة (الماء، الهواء، النار والتراب) كما ذكر الدكتور عفيف البهنسي في كتابه «معاني النجوم في الرقش العربي».
إذن كل ما نراه أمامنا من لوحات تجريدية أو أشكال زخرفية هي في الأساس كانت لوحات مكتملة المعاني والألوان والأشكال في فكر الفنان، ثم خرجت بحلتها الجديدة. يقول الناقد الفرنسي رولان بارت: «إن الفن التشكيلي هو صياغة بلغة مرئية شأنه في ذلك شأن الكتابة، وهي صياغة للغة منطوقة، والعلاقة بين اللغة والصيغة هي علاقة سيميولوجية دلالية، فكان التجريد الفني في الرقش العربي مرتبط بالمعنى المطلق للحق والوجود». وليس بعيداً عن الرقش العربي والزخارف الإسلامية الخطُ العربي الذي تشكّل حروفه لوحةً كاملةً ملوّنة، فقد أخبرنا الشاعر الفرنسي رامبو أن للحروف ألواناً لا نراها، والحرف العربي هو الصيغة النهائية لما كان من التحوير والتجريد والتكثيف هو منتهى الأشكال. يقول بيكاسو: «إنني أردت الوصول إلى نقطة ما، فرأيت الخط العربي قد سبقني إليها».
ونجد أن الزخارف لم تكن لترضى أن تستقر في اللوحات فقط، بل كانت عمليّة جداً حيث استُخدمت في أغراض تزيينيّة، فكانت تحيط بصفحات المصاحف والكتب المهمة، ويبقى الفنان سنيناً لينجز زخرفة كاملة لمصحفٍ واحد، لكن انتشارها الأكبر كان في العمارة حيث أنها أصبحت الثيمة المميزة للأبنية ذات الطابع الإسلامي.
أما ردة الفعل الأخيرة فهي التي تبتسم عند سماع «الفن الإسلامي»، فتستحضر كلّ ما سبق من خطوطٍ ورقوش وزخارف وعمارات وتزيد عليها لوحاتٍ شغلت العالم وما زالت إلى الآن. لوحات مشغولة بطريقة مميزة بدأت قبل العهد الإسلامي ثم استمرت بعده وهي ما كان يسمى قديماً «التزاويق» وحالياً تدعى بـ «المنمنمات»، وكانت منتشرة في بلاد فارس وفي الهند، وبعد الإسلام بقي الفرس أمهر من عمل بها مع انتشارها في العراق وسوريا. وذاك يرجع إلى تراث ذينك البلدين من حيث الحضارات التي تعاقبت على أرضيهما، وما تركته من آثارٍ جعلت الفن من بديهيات سكان تلك المنطقة.
وأول ظهور للمنمنمات في الكتب كان مع كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه ابن المقفع عن الهندية، وكذلك «مقامات الحريري»، و»الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وفي بعض الكتب العلمية مثل «الترياق» لجالينوس، و»البيطرة» لأحمد بن الحسن وغيرها. وأهم من رسم المنمنمات هو «بهزاد»، وذلك لكثرة أعماله ولجمالياتها، ومنها رسمه «الشاهنامة» للفردوسي، والذي رُسم بدوره من قبل الفنان في مساجلةٍ مع شعراء البلاط الغزنوي، وكذلك الواسطي من ألمع الأسماء في هذا المجال.
وتعتبر المنمنمات من أهم الوثائق التي تؤرشف لطبيعة المجتمع الإسلامي، حيث أنها تصوّر تفاصيل أغفلها المؤرخون سهواً أو بقصد، فنجد منمنمات تصوّر معارك نكاد نسمع فيها صليل السيوف، وصهيل الخيول، ونتصبب عرقاً مع سماع ضبحها. الرحلات أيضاً حاضرة في الهوادج والقوارب، وتلك منمنمة أخرى تصوّر بلاط أحد الخلفاء وتصوّر توّزع الأعيان في أرجائه، صورةٌ تذكارية من مئات السنين. الحفلات أيضاً محفوظةٌ على تلك الأوراق بموسيقاها وأنغامها، كيف لا والعازف موجود والبزق بيده وصديقه يحمل ناياً والنسوة يرقصن في تلك المساحة برشاقة لا تغيب عن حركات أيديهن. بالإضافة إلى ذلك نجد منمنمات توضح حالات عشق بين رجلٌ وامرأة ينضح الشغف من عينيهما، هما أمامنا الآن ينتظران أن يغيب نظرنا ليكملا العناق، وكأنهما مشهد من الواقع.
وبعيداً عن الأشخاص نجد لوحات اختصت برسم الحدائق وأشجارها وأزهارها، جداول الماء وطرق الريّ واضحة، وهي بساتين دنيوية ربما، وربما هي فكرة الجنة تُصوّر بالألوان بعدما ذُكرت أوصافها بشكلٍ مفصّل في القرآن الكريم، فتكاد تشم رائحة الزهور وتمدّ يدك لتذوق فواكه الجنة.
لوحات المنمنمات منفذة بإتقانٍ شديد، وتعكس المكانة الرفيعة لهذا الفن، وهنالك تفاصيل كثيرة تعجّ بها المنمنمة حتى تكاد بعض الأشكال تهوي من أطراف اللوحة. منمنمات أخرى لا تحوي عناصر كثيرة كسابقاتها، مثل رجل في منتصفها، ومع ذلك نجد تفاصيل كثيرة، فالرسوم على ثيابه مثلاً واضحة مع إطار مزخرف للوحة كادر من أصل العمل، والذي قد يحمل أيضاً كتابات عربية أحياناً وفارسية أخرى وفي الحالتين الحرف العربي هو الحاضر. تقنية المنظور غير موجودة، فاللوحات مسطحة أي أنها لا تعترف بالبعد الثالث، كذلك التصوير فيها تشبيهي ولا ينكر ذلك عظمة الرسامين كما يدعي المستشرق السويسري ماكس فان برشيم. فشأنهم شأن الكثير من أهم الفنانين العالمين (فان كوخ، مودلياني، ماغريت، ماتيس…) الذين كانوا يبتعدون عن الواقعية وعن الالتزام بقواعد معينة تحكم الظل والنور واللون وما إلى ذلك ويلجأون لرسم الفكرة أو العاطفة وتجسيد الواقع بصورةٍ محوّرة وفق مدارس مختلفة تعبيرية وانطباعية وتجريدية.
فالفن الإسلامي إذن هو فن مكتفٍ بذاته يكتمل بدلالاته، ومرتبطٌ أشد الارتباط بالبعد الدلالي السيمولوجي للأشكال والخطوط وحركاتها وتوزعها، للألوان وللمواضيع أيضاً، فلا شيء يلقى جزافاً هنا وعلى العين أن تلتقط كل تفصيل مهما صغر ليحلله العقل ويكمِل المشهد. يقول الغزالي: «العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها، بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها».
بسمة شيخو