الرواية الفائزة بجائزة البوكر لهذا العام: مصائر ربعي المدهون… البحث عن التعايش المُشترك في مستقبل بعيد
[wpcc-script type=”992e913d1ca21218bc2b0bd9-text/javascript”]
القاهرة – «القدس العربي»: «كأن والدي لحظة غادر مسقط رأسه وعاش غريباً، ورثني غربته إلى اليوم». حالة الاغتراب هذه هي النغمة الأعلى والأشمل في رواية ربعي المدهون «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، التي حصدت الجائزة العالمية للرواية العربية في نسختها الأخيرة.
وما بين الاغتراب وخشية النسيان تدور أحداث الرواية، وما توثيق الأماكن ومحاولة الاستماع إلى الحكايات القديمة من العجائز يهودا وعربا إلا محاولة مُستميتة لإثبات الوجود، ولو حتى من خلال الالتقاء بين كارثتين واحدة انتهت/الهولوكوست، وأخرى لم تزل نغمتها تتردد في كل مكان/النكبة. فما تعرّض له اليهود في الهولوكوست، وما تعرّض له الفلسطينيون في المجازر والحروب. ومن خلال شخصيات الرواية، يتم استعراض حال من ظلوا في فلسطين بعد حرب 1948، ومن هاجروا أو تم تهجيرهم، وصولاً إلى ما يُعانيه الفلسطيني اليوم إذا ما فكّر وانتوى العودة. وبلا مأساة أو تباك أو حتى تصدير لعنات تأتي الأحداث الأبسط والأعمق التي تعبّر عما يحدث الآن ويمتد إلى ماضٍ من الأخطاء، في محاولة للبحث عن صيغة لوجود مُشترك، ولكن في مستقبل بعيد. جاءت الرواية في 266 صفحة، من القطع المتوسط، وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت وعمان، وعن مكتبة كل شيء في حيفا.
الكونشرتو وحكاياته
يقول المؤلف في مقدمة الرواية .. «بعد مشروعي «السيدة من تل أبيب»، التي قدمت فيها مشهداً بانورامياً لقطاع غزة في مرحلة زمنية معينة، قمت بتوليف النص في قالب الكونشرتو الموسيقي، المكوّن من أربع حركات تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية حين يظهر بطلان رئيسان آخران لحكاية أخرى… وحين نصل إلى الرابعة تبدأ الحكايات الأربع في التكامل».
«خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة. خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث ولدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت. يا أصدقائي وأحبتي، يوماً ما، لا أظنه بعيداً، سأموت. أريد أن أدفن هنا وأن أدفن هناك». هكذا تدور الحركة الأولى عن حكاية حُب الأرمنية الفلسطينية «إيفانا أردكيان» طبيبا بريطانيا في زمن الانتداب على فلسطين وتتزوجه ويرحلان إلى لندن وتنجب منه بنتا (جولي). وتوصي إيفانا قبل وفاتها بأن تُحرق جثتها، ويُنثر نصف رمادها في نهر التايمز في لندن. أما النصف الآخر فطلبت أن يؤخذ في إناء ويوضع في بيت أهلها في عكا الذي يسكنه اليهود الآن.
وتأتي الحكاية/الحركة الثانية لاستعراض حياة (جنين دهمان) التي تكتب رواية بعنوان «فلسطيني تيس» عن محمود دهمان الذي يعود سراً إلى المجدل ويرفض الرحيل، إضافة إلى قصتها مع زوجها باسم الذي التقته خلال وجودها في الولايات المتحدة. «في آخر جدال بينهما قال لها: عايش في بلدنا كأني مواطن افتراضي. موجود في السجلات الرسمية، في وزارة الداخلية، عند الأمن العام… بس مش موجود في المؤسسات الحقوقية ولا مؤسسات الخدمة الصحية والاجتماعية، حتى أنت يا جنين، حاضرة غايبة، زي كل الفلسطينيين في هالبلاد، بس أنا يا حبيبتي غايب غايب. أنا دعوة لتعذيب الذات.
«إعلان سيئ بيوزعوه من غير مصاري على كل فلسطيني بيفكر يرجع للبلاد بطريقتي». هكذا تبدو حالة الغنائية المُنفلتة التي تشي بها الكلمات. والحركة الثالثة تأخذنا إلى حكاية (جولي) ابنة إيفانا، وزوجها (وليد دهمان) ــ بطل رواية السيدة من تل أبيب ــ حيث يعود وزوجته لتنفيذ وصية إيفانا. والحركة الأخيرة تتمثل في زيارة وليد إلى متحف «يد فشيم» الخاص بضحايا الهولوكوست، والقريب والمقابل لقرية دير ياسين، التي شهدت مجزرة المنظمات الصهيونية للفلسطينيين، ويتخيل متحفاً آخر يُجسد هذه المجزرة بالمقابل. وما الموقف من ضحايا الجانبين، وكيفية المعاناة في اللحظة الراهنة، وكيف يبدو المستقبل بعيدأ جداً حتى تتآلف حالة كل منهما.
ألعاب الذاكرة والتأريخ
للتأريخ والتوثيق هنا دوره البارز والمهم على المستوى السردي، وإن كان الخيال الروائي جمّع شتات الذاكرة، إلا أن الإصرار على ذِكر الأماكن وتفاصيلها، الدروب التي تباينت عما كانت، ومحاولة خلق صور ثابتة وقديمة لما كانت عليه، والاتكاء على حكايات العجائز .. إيفانا، المرأة اليهودية التي شهدت الهولوكوست على سبيل المثال. وما بين ذاكرة هؤلاء وبين وعي الراوي الآن تبدو مسألة التأريخ الروائي، ومحاولة خلق الدلالات، المتمثل في عدم الالتزام الحرفي بما كان أو تدوين الكائن بالفعل، ما بينهما يصبح روائياً، وعبر تقنيات السرد يسقط منطق الزمن، فالأماكن والشخصيات بالكاد تتعرّف زمنها، أن تكتب جنين رواية بدورها، لها أحداثها وشخصياتها ورؤيتها ــ شخصية مُتخيّلة، تعيد إنتاج الخيال ــ أو ومضات العودة إلى الماضي/الفلاش باك، من وجهة نظر الشخصية الساردة، وبالتالي حتى هذا الماضي يمكن تأويله بأكثر من طريقة، من دون أن تحدّه رؤية واحدة للسارد، وتفرضه على المُتلقي.
الجمالي والتوثيقي
الأعمال الروائية العربية الصادرة أخيراً، التي تتصدر المشهد الروائي العربي، سواء من خلال الترشح لجائزة، أو من خلال أسماء الكُتّاب المُتمرسين، أصبحت تحمل الهوس بالتأريخ والتوثيق. أصبح الماضي هو الأساس، وتبدو رؤية المستقبل غائمة إلى حدٍ بعيد، حتى أن قيمة العمل في نظر النقاد تبدو في مدى الاحتكام إلى هذا الماضي وتأسيس العمل الروائي من خلاله. هنا تبدو القيمة المُفترضة للرواية، وهو أمر يُثير التساؤل حول القيمة الجمالية للوعي الروائي العربي ــ لا ينطبق هذا على معظم التجارب الروائية العربية ــ ويبدو أن الروائي يبحث قبل النقاد عن ثقل للنص، بأن يجعله حاملاً لتاريخ أو تأريخ ما، من دون الاهتمام بالقيمة الجمالية أو محاولة تخطي هذه العقبة، التي أصبحت ما يُشبه السمة العامة في أغلب الأعمال الروائية مؤخراً.
المؤلف
ولد ربعي المدهون في المجدل/عسقلان عام 1945، هاجرت عائلته إلى قطاع غزة عام 1948 واستقرت في مخيم خان يونس للاجئين. درس التاريخ في جامعة الإسكندرية، دون حصوله على شهادة الليسانس، وقد تم إبعاده عن البلاد عام 1970 لأسباب سياسية. يعمل حالياً في جريدة «الشرق الأوسط» التي تصدر في لندن حيث يقيم ويحمل الجنسية البريطانية. من أعماله «الانتفاضة الفلسطينية الهيكل التنظيمي وأساليب العمل» و«طعم الفراق .. ثلاثة أجيال فلسطينية في ذاكرة» و«السيدة من تل أبيب»، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2010.
محمد عبد الرحيم