كنيسة القديس «مار جرجس» في مصر القديمة: أمير الشهداء وشفيع المصريين

القاهرة ـ «القدس العربي»: «يا مار جرجس ع الجبل صلينا، واحنا النصارى والصليب فى إدينا. يا مار جرجس ع الجبل ركعنا، واحنا النصارى والصليب رفعنا» هذه الكلمات نسمعها عبر أحد المواويل الشعبية المصرية التي يرددها المصريون حباً في قديسهم وشهيدهم، البطل المُدافع عن الحق، الثائر في وجه السُلطة، «أبو حربة» ليقتل بها الوحوش، «سريع الندهة» فى إغاثة المحتاجين، «البطل الروماني» نسبة إلى نشأته وتربيته، «الملطي» نسبة لموطن آبائه وأجداده، «الكبادوكي» حسب مقر ميلاده، «الفلسطيني» نسبة لموطن أمه، والقبطي رسماً وهوية. وهو في التراث الشعبي القبطي يُماثل شخصية الخضر لدى المسلمين. لذلك لا نجد غرابة في أن يلجأ إلى كنيسته العديد من المصريين، دون تفرقة، ليتشفع لهم، ويتركون أمنياتهم في وريقات صغيرة بين أحجار كنيسته الشهيرة للروم الأرثوذكس في مصر القديمة، أحد أهم الكنائس في القاهرة.

كنيسة القديس «مار جرجس» في مصر القديمة: أمير الشهداء وشفيع المصريين

[wpcc-script type=”702b21572b1dca5e26503ec8-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: «يا مار جرجس ع الجبل صلينا، واحنا النصارى والصليب فى إدينا. يا مار جرجس ع الجبل ركعنا، واحنا النصارى والصليب رفعنا» هذه الكلمات نسمعها عبر أحد المواويل الشعبية المصرية التي يرددها المصريون حباً في قديسهم وشهيدهم، البطل المُدافع عن الحق، الثائر في وجه السُلطة، «أبو حربة» ليقتل بها الوحوش، «سريع الندهة» فى إغاثة المحتاجين، «البطل الروماني» نسبة إلى نشأته وتربيته، «الملطي» نسبة لموطن آبائه وأجداده، «الكبادوكي» حسب مقر ميلاده، «الفلسطيني» نسبة لموطن أمه، والقبطي رسماً وهوية. وهو في التراث الشعبي القبطي يُماثل شخصية الخضر لدى المسلمين. لذلك لا نجد غرابة في أن يلجأ إلى كنيسته العديد من المصريين، دون تفرقة، ليتشفع لهم، ويتركون أمنياتهم في وريقات صغيرة بين أحجار كنيسته الشهيرة للروم الأرثوذكس في مصر القديمة، أحد أهم الكنائس في القاهرة.

حكاية الحكايات

من الممكن أن نبدأ الحكاية من آثارها في نفوس المخلوقات، حتى تجسيدها من خلال الأحجار والأيقونات والتصاوير المقدسة. فها هو مار جرجس ممتطياً حصانه، ويقتل التنين تحت أقدامه، وفي طرف الصورة توجد فتاة صغيرة واقفة تصلي، وتروي الأسطورة عن هذه الصورة أنه كان يوجد تنين كبير يسكن أحد الأنهار في مدينة بيروت، وكان يُطلب كل سنة عروساً صغيرة تقدم له كأضحية، وذات مرة طلب بنت السلطان وكانت ذات جمال خارق، كما كانت لها شعبية كبيرة بين أهل المدينة، فوقع الملك في مأزق، وقبل أن يلقوا بالفتاة في النهر صرخت والجموع معها مستغيثين بمار جرجس، فظهر الفارس مار جرجس فجأة ودارت معركة كبرى بينه وبين التنين انتهت أخيراً بمقتل التنين ونجاة بنت الملك من الموت. والأسطورة الأخرى تكمن في اختلاف التفاصيل .. ففى كل عام يظهر التنين فى مياه النيل ــ أحيانا يأتي في صورة وحش كاسر أو في صورة ثعبان، أو في خليط منهما ــ لا يهدأ إلا إذا رمى له أهل القرية فتاة جميلة، وذات يوم كان القديس مار جرجس يمر بإحدى المدن المصرية، ووجد أهلها يصرخون ويبكون حزانى، لأن الدور هذا العام سيأتي على أجمل فتيات القرية، وما أن سمع مار جرجس عويل أهل القرية وندبهم، وعرف بأمر التنين، حتى ذهب إليه وبعد صراع كبير استطاع أن يقتله ويطعنه في فمه قبل أن يحرقه بنيرانه، ومن وقتها عاشت القرية في أمان. والأمر يُشبه عروس النيل لدى الفراعنة، وتقديمها إلى النيل في أوقات الفيضان حتى يهدأ ويأمن الناس شره، فلم يزر مار جرجس مصر، إلا من خلال رفاته. الأكثر منطقية ــ وفق منطق الأساطير ــ أن الأمر والصورة الشهيرة مرموزة إلى حدٍ كبير، فالفتاة التي في عُمق الصورة هي الكنيسة المُنتظرة خلاص الشر من العالم، وقد تصبح فتاة صغيرة خلف القديس على ظهر الحصان، فتبدو تعبيراً عن الفتاة التي أغوته في محبسه، واتبعته في النهاية ودفعت روحها ثمناً لذلك، وما التنين إلا رمز الشيطان والشر، وهو ما يتوافق في الوعي المصري القديم مع حورس وست وإيزيس، المخلوقات الثلاثة، بينما إيزوريس المختفي يشهد ويُبارك أفعال ابنه البار.
على الجانب الآخر نجد التشابه الكبير بين أسطورتي «مار جرجس» و»الخضر»، هذا الحي الذي يأتي للنجدة في أي وقت، الذي يحارب في صف نصرة الحق ــ كل حسب وجهة نظره، فقد رُفعت رايته في الغزوات الصليبية على الشرق، وكذلك على السفينة التي اكتشف كولومبوس أمريكا وهو على متنها ــ لكن الأجدى والأبقى أنه سيظل الشفيع الكبير للحزانى والمحرومين من أبناء السبيل. هنا لا يختلف المسلم عن المسيحي في الزيارة والتبرّك وإطلاق الصلوات والدعوات، وأوراق صغيرة فيها الجليل من الأماني .. كسِعة الرزق، أو الشفاء من الأمراض، النفسي منها أو العضوي، أو كليهما معاً وهو تحقيق المعجزة، أو الشفاء منها وهو الأكثر صعوبة، الشفاء من الحُب.

حكاية الأمير

«يجب هدم الكنائس وإزالتها من الوجود. يجب حرق جميع الكتب المقدسة التي للمسيحيين. يُطرد فوراً جميع المسيحيين الموظفين في الدولة. حرمان العبيد من الحرية إن ظلوا مسيحيين. يجب على الجميع تقديم الذبائح والبخور للآلهة ومعاقبة كل من يخالف أوامر الإمبراطورية ويعرض نفسه لأشد أنواع العقاب والعذاب حتى الموت». (من منشور الإمبراطور داديانوس الفارسي).
«اسمي بالإيمان عبد يسوع المسيح، ولكن بحسب الميلاد الأمير جرجس بن أنسطاسيوس الوالي. ودخلت إلى هنا لأشهد لإلهي يسوع المسيح الذي وُلِدَ من العذراء مريم وصُلِبَ من أجل خلاصي ومات وقام من بين الأموات، وهو حي إلى أبد الآبدين، وسيأتي ليدين الأحياء والأموات». هذه العبارات قالها مار جرجس في حضرة داديانوس الفارسي، الوثني مَضطهد المسيحيين. وبعدما قام بتمزيق منشور الاضطهاد في حضرة الشعب. فقد ذهب القديس إلى مدينة صور في لبنان لمقابلة الإمبراطور داديانوس الفارسي ليُطالب بأحقيته في استمراره في حكم فلسطين خلفاً لحاكمها السابق، فبلاد الشام كانت تابعة للنفوذ الفارسي في ذلك الوقت. وحال وصوله وجد أن معظم أهل المدينة والحكام يعبدون الأصنام، تاركين عبادة الله، إضافة إلى أن أهل المدينة المسيحيين كانوا يخشون أن يجاهروا بمسيحيتهم خوفًا من استشهادهم. فرفع جرجس عينيه إلى السماء، فنظر وإذ رئيس الملائكة الجليل ميخائيل يكلمه: «تشدد يا جرجس .. تشجع ولا تخف سأكون معك، ستنال عذابات كثيرة على اسم مسيحك الذي أحبك، وفي النهاية تسافر إلى مدينة الأبكار في أورشليم السمائية».

حكاية القديس

لم يُعرف التاريخ الحقيقي لميلاد مار جرجس، لكنه بالتقريب ولد في العام 236 ميلادية في بلدة كبادوكية الواقعة في دولة تركيا حالياً. وتعني جرجيوس عامل الأرض أو الفلاح باليونانية. كان والده الأمير أنسطاسيوس لمدينة ملطية التي كانت تقع في شرق كبادوكية، ووالدته هي الأميرة ثيؤبستي ابنة حاكم مدينة اللد في فلسطين. وأما جده الأمير يوحنا فكان حاكماً لبلدة كبادوكية، فكان ينتسب إلى أسرة مسيحية واسعة الثراء والمكانة والنفوذ. عندما بلغ الرابعة عشرة مات أبوه، والتحق بالعمل كجندي، حتى مقابلته داديانوس الفارسي، لتبدأ حكايته كقديس. وكأي حكاية لقديس أو نبي أو رجل صالح، تبدو الأساطير والمعجزات هي الجناح الآخر للوقائع، وهنا تصبح للمُخيلة اليد العليا، خالقة حالة من التوافق النفسي في نفوس المؤمنين .. سبع سنوات متصلة هي المدة التي قضاها القديس في تحمل شتى أنواع العذابات بحيل وألاعيب وإغراءات مختلفة قام بها الملك داديانوس الفارسي الوثني، ومعه حشد من الحكام والولاة عددهم تسعة وستين، كانوا يسيطرون على المدن والبلاد التي كانت تحت حكم وسيطرة الفرس بعد انتصارهم على الرومان ومنها بلاد الشام وفلسطين.
بداية وُضِعَ مار جرجس في السجن وبدأ الإمبراطور يستدرجه عن طريق إغرائه ومحاربته في عفته وطهارته، فأرسل إحدى فتيات القصر الجميلات إلى القديس في السجن ومكثت معه ليلة كاملة لعلَّها تستطيع أن تغريه وتسقطه معها، ولكن القديس عرف كيف يحول السجن إلى هيكل طاهر ترفع فيه الصلوات والتسابيح ليس فقط لأجل نفسه ولكن لأجل خلاص نفس هذه المرأة المسكينة. لم يأتِ الصباح حتى تقدمت هذه الفتاة إليه بدموع تطلب منه أن يُعرّفها سر حياة الطهارة والقداسة التي تلامست معها في حياته، فأخذ يبشرها بيسوع المسيح ينبوع الطهارة. وقالت له: «أنا أتيت لك بسحر خلاعتي وأنت جذبتني إليك بسحر طهارتك». فتم قطع رأس الفتاة جرّاء ذلك. المصير نفسه لاقته زوجه الإمبراطور، وقد استمعت إلى القديس وكلماته، فدارت في فلك الإيمان، ودفعت حياتها ثمناً لذلك. فما كان من تقطيع أوصال القديس، ودفنه في الجير الحي، وتمزيق جسده، وقيامته وهو على وشك الموت ثلاث مرّات بفضل القوة العليا الإلهية، وثقته في المخلّص العظيم، يسوع المسيح. كان لابد من القضاء على الفتنة، والتأييد الشعبي للقديس ومعجزاته، فكانت النهاية أن تم قطع رأس صاحب المعجزات، فنال إكليل الشهادة في اليوم الثالث والعشرين من شهر برمودة الموافق أول ايار/مايو في حوالي 263 ميلادية. فما كان من خادمه سقراطيس بأخذ جسده الطاهر ولفه في أكفان فاخرة، ومضى به إلى مدينة اللد بفلسطين، حتى انتقلت رفاته واستقرت أخيراً في ديره الشهير، الذي يحمل اسمه بمصر القديمة.

حكاية الكنيسة

يذكر تقي الدين المقريزي أنها من أجمل كنائس القبط داخل قصر الشمع. حيث يعود تاريخ تشييد الكنيسة إلى عام 684 ميلادية، وقد قام أثناسيوس أحد أثرياء ذاك الزمان بتشييدها. وهي من أهم الآثار للأقباط الروم الأرثوذوكس في مصر وأفريقيا والعالم. وشيّدت على أحد الأبراج الثلاثة لحصن بابليون في منطقة مجمع الأديان بمصر القديمة، حيث يختلف تصميمها الدائري عن معظم تصميم الكنائس الأخرى، التي تأخذ شكل سفينة نوح، رمزاً للخلاص. لكنها احترقت قبل ما يقارب المئة عام، وأعيد تشييدها مرّة أخرى على الطراز اليوناني البسيط.
ويذكر ألفرد بتلر أن هناك من جهة الشمال بعض بقايا لمبان قديمة، وعلى ذلك لا يمكنه التأكد عما إذا كان مَن قاموا بتشييدها قد لاحظوا المكان الأصلي لها، أو بعض الهياكل المتصلة بها، كما نوّه بتلر أن هناك بقايا يتعذر تمييزها من صحن وجناحين ودهليز. ولم يبق من الكنيسة القديمة إلا قاعة استقبال أو حجرة كبيرة تقع في حوض الكنيسة، تعرف بـ»قاعة الفرسان» يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر.
تضم الكنيسة برجاً ــ برج الأجراس ــ يبلغ ارتفاعه 30 مترا، وهو أحد أهم معالم المكان. كما توجد عند المدخل ــ في الحوش ــ سلسلة يُقال إنها إحدى السلاسل التي تعذب بها مار جرجس، وكذلك بعض من أدوات التعذيب الأخرى. ومن الآثار الباقية في القاعة وعبر آثار الحريق الباقية نرى بقايا أفاريز خشبية، مزينة بنقوش دقيقة، والزخارف الملونة، إضافة إلى النوافذ الخشبية المُطعمة بالعاج. فالمبنى يتكون من صحن مربع الشكل إلى حدٍ كبير، وفي الأركان أربعة أعمدة كبيرة حديثة، وثلاثة هياكل مربعة الشكل، حيث يعلو كل هيكل منها قبة عالية وحول كل واحدة منها أربع نوافذ ذات فتحات لينفذ منها الضوء. وكالعادة يبدو الهيكل الأوسط أهمهم، فهو الوحيد الذي يحوي فوق مذبحه قبة خشبية تقوم على أربعة أعمدة من الرخام المصقول، وداخل القبة رسماً للسيد المسيح، مُتربعاُ على العرش وحوله الملائكة. إضافة إلى العديد من الأيقونات التي تمثل سواء السيدة العذراء، أو مار جرجس فوق حصانه يقتل التنين. إضافة إلى أربع عشرة صورة للملائكة والرسل والقديسين.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *