في مقدورك أن تقرأ الكتاب دفعة واحدة ثم تعود إليه مجددا لتقرأ من المنتصف أو من الخواتيم، أو ربما من البداية مرة أخرى؛ الكتاب الشعري له سحره الخاص وحين نفرغ من قراءة كتاب شعري فإن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا دائما: «أين هو الشعر؟!»- كما أشار الشاعر والروائي عباس بيضون يوما ما في ثمانينيات القرن المنصرم. نسأل أنفسنا «أين الشعر؟» حين نظن أننا فرغنا من قراءة كتاب ما، لكن القراءة لا تبتدئ حقا إلا بعد نسيانه لوقت يقصر أو يطول، حين يعيدنا إليه مقطع شعري أو صورة تخطر على البال بإلحاح، نهرع مجددا للبحث في أضابير المكتبة، عن الكتاب، لتبدأ القراءة فعلا؛ هل لذلك صلة بما سماه العرب القدامى من نقّاد الشعر بـ«بيت القصيد»؟ هل ما يمنح الكتاب الشعري حياته في الذاكرة والوجدان، هو ذلك المقطع أو تلك الصورة التي ترسخ- وحدها- في الوجدان والذاكرة وتعيدنا مرة أخرى إلى الكتاب، هل هو رسوخ بيت واحد يعيدنا إلى القصيدة؟
يرى الشاعر والناقد العراقي عارف الساعدي أن كل جيل ظهر بعد السيّاب في العراق حاول أن يجترح خصوصية تمثله، في الاختلاف والتجاوز عن الجيل الذي سبقه حتى وإن كان أقل إبداعا. وعارف الساعدي شاعر قلق دوما تجاه ما يكتب، وصاحب تجربة مميزة نجحت في تجاوز الشبه الغالب بين التجارب الشعرية العراقية المعاصرة.
الكَلِمة التي تركناها لوقتِ لاحق
لا معنى لي،
(1) عينا الاستعارةِ على الثَّورةِ
(1) أنا هوَ المجنونُ – نعم - أنا الذي يُكلّمُ كلَّ غيمةٍ على أنّها غيمتُهُ، وينفخُ من هواه المستحيل في بالوناتٍ ملونة، ويرسلُها مع الريحِ التي صدّقتهُ وآمنتِ بهواه، لا حرجَ على المجنونِ إذن إذا تعلّقَ بالهواءِ وطارَ، فكلُّ غيمةٍ غيمتهُ، وكلُّ غيمةٍ جاءتِ من أرضِهِ هناكَ.
بالتفصيل قصة الحطاب والافعى يحكى أن هناك رجل فقير يدعى محبوب يقوم بجمع الحطب من الغابة ومن ثم بيعه لأهالي القرية، وكان هذا رجل نشيط لا يعرف الممل أو
سمعتُ أنّ شاعراً بالقرب قد جثم في فوّهةِ الموت
مثلما يصبرُ النفقُ على أنينِ قطارٍ
ثمةَ وجهانِ يتوازعانِ المشهدَ: أحدهما حالمٌ يقترب من الطوبى، وآخر واقعي، أو هكذا يراد منه، ليكونَ الصورة العقلانية بمواجهةِ الطوبى والتهويم، داخل كلّ صورة تيارات عدة باردة وحارة، متصادمة حيناً ومتوافقة حيناً، وهو ما يجعل التشكيكَ بأصالة كلّ الصور أمراً ممكناً ومفزعاً في الآنِ ذاتهِ، أبداً لا صحةَ في القول: «وجهانِ لعملة واحدة» هذا الشائع خطّاءٌ وفتاكٌ إذ يساوي بينَ أمرين مختلفين، تيارين متنافرين، في ما لو تجاذبا ولدّا طاقة حسنة، أما في حالهما الحالية، سيولدانِ تصادماً تعقبهُ شرارة، ثمّ تشتعلُ النار، هذا في التوصيفِ الذي يسبقُ الحقيقة، ويلي الواقعة بتداول طرفي الأزمةِ النفسية لها: الحالم والواقعي على حدّ سواء.