المثالية المفرطة: تعريفها، وأسبابها، وطرق علاجها

يعيش كثيرٌ من الأشخاص في وهم المثالية، ويسعَون دائماً إلى الجديَّة والصرامة في كل شيء، رافضين تماماً وجود الخطأ في حياتهم، فلا مجال للعفوية، ولا مكان لجزء بسيط من الفوضى واللامبالاة الجميلة، ويلتزمون بمعايير قاسية ويمنحونها ملكة السيطرة على حياتهم. ما هي المثالية المفرطة، وكيف أتخلص منها؟ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

Share your love

فلا يحيدون عنها ولا يملكون أيَّة رحمة لأنفسهم أو لغيرهم في حال المساس بها والتعدي عليها، فيميلون إلى قطع علاقتهم بالآخر في حال عدم تطابقه مع المعايير المعتمدة لديهم، كما يحترفون جلد ذواتهم في حال عدم قدرتهم على الوفاء بمعاييرهم المثالية.

يعيش مدمنو المثالية في قلق مستمر؛ فلا يجدون قيمة أنفسهم إلا من خلال نتائج الأشياء التي يقومون بها، ويفقدون بالتالي متعة الأشياء ولذتها، ويعلقون سعادتهم على النتيجة فحسب، فهم لا يعترفون بمبدأ التدرج في الحياة، ولا يحتفلون بالخطوات الأولى في طريق النجاح، ويُضخِّمون العراقيل التي من الممكن أن تواجههم، الأمر الذي قد يمنعهم من الاستمرار بالعمل لعدم توافقه مع توقعاتهم العالية، ومن جراء صدمتهم الكبيرة بخفايا الطريق.

خُلِقنا على هذه الأرض من أجل التطور والارتقاء، وعلينا أن نخطئ لكي نتعلم من أخطائنا، وبالتالي يرتفع مستوى وعينا ويرتقي مستوى حياتنا. عندما يمنعك طلبك للكمال من النوم جيداً، وعندما يقتل سعادتك ومتعتك، ويفقدك الشغف والحماس، فهذا يعني أنَّك في حالة سلبية من التفكير، وعليك تغيير منهجية تفكيرك والتركيز على الطريق مع وضع النتيجة في الحسبان، فالسعادة تكمن في الطريق، والتعلم من الأخطاء من أفضل استراتيجيات التعلم على الإطلاق.

ما هي المثالية المفرطة، وكيف أتخلص منها؟ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هي المثالية المفرطة؟

هي التوقعات العالية الجامدة التي يرسمها الإنسان خلال تعامله مع الآخر والمجتمع، وفي تعامله مع ذاته أيضاً، بحيث تكون هذه التوقعات غير متوافقة مع الواقع، وغير منسجمة مع إمكانات الشخص، الأمر الذي يجعل الإنسان في حالة من المشاعر السلبية، حيث يشعر بعدم قدرته وقدرة من حوله بالوفاء بتلك التوقعات.

ما هي أسباب المثالية المفرطة؟

1. التربية:

  • يُربِّي بعض الأهل أطفالهم على المثالية المفرطة من خلال زرع القيم والأخلاق لديهم بطريقة مبالغ فيها، ومن دون إيصال فكرة شاملة عن وضع المجتمع ككل بما فيه من مستويات وعي، ومستويات أخلاقية مختلفة، ومن دون التحضير النفسي للأمور المخالفة للأخلاق التي من الممكن أن يتعرضوا لها في المجتمع. يقول الأب لابنه على سبيل المثال: “لا يجوز لك على الإطلاق التلفظ بأيَّة كلمة سيئة، فمن العار ومن الجريمة القيام بفعل كهذا”، لقد ربَّى الأب في هذه الحالة ولده على الأخلاق الحميدة، ولكنَّه في ذات الوقت لم ينبِّهه إلى المجتمع وما فيه من تصرفات شاذة، الأمر الذي يعرِّض الطفل إلى الانهيار النفسي في حال احتكاكه مع أشخاص مختلفين عنه وعن أخلاقه، لأنَّه ببساطة اعتقد أنَّ المجتمع انعكاس تام لأهله وقيمه وأخلاقياته. على الآباء تربية أولادهم على الأخلاق، ولكن مع ضرورة تبيان طبيعة المجتمع الحقيقيَّة لهم، بحيث يتقبلون فكرة وجود سويات فكرية ونفسية وأخلاقية مختلفة في المجتمع، الأمر الذي يجعلهم واقعيين وأقوياء أكثر.
  • من جهة أخرى، قد يربِّي الأهل أولادهم مستخدمين أسلوب المقارنة، مما يضعف ثقة الطفل بذاته، كأن تقول الأم لابنها: “انظر إلى ابنِ خالتك، يا له من طفل مهذب ولطيف، لماذا أنت مختلف عنه؟”، يُصِيب أسلوب المقارنة الطفل بمشاعر سلبية، بحيث يشعر أنَّ أهم شخصين في الحياة غير فخورَيْن به، وأنَّه غير كافٍ وعليه العمل بجد لكي يتغلب على منافسيه من الأطفال والفوز برضا أبويه، الأمر الذي يجعله مهووساً بفكرة الكمال بحيث يستمد قيمته من مديح الآخر له ومن نظرته نحوه، فتجده يسعى إلى كسب رضا الآخر مهما كلَّف الأمر.
  • يربي معظم الأهل أطفالهم على التفكير السلبي، بحيث يركزون على الأمور الناقصة ولا يهتمون بإنجازات الأطفال، على سبيل المثال: “في حال حصول الطفل على 9 درجات من أصل 10 درجات؛ فإنَّ معظم الأهل يركزون على العلامة المفقودة أكثر من تركيزهم على الدرجة العالية التي حصل عليها الطفل”، الأمر الذي يصيب الطفل بالمثالية المفرطة، بحيث لا يسعد إلَّا في حال حصوله على العلامة الكاملة، عادَّاً أنَّ كل علامة أخرى لا معنى لها على الإطلاق؛ أي يتبنى فكرة “الكل أو لا شيء”.

شاهد بالفيديو: 12 صفة تجعلك صاحب شخصية مثالية

[wpcc-iframe class=”embed-responsive-item lazyload” src=”https://www.annajah.net/fe/images/annajah_large.jpg” width=”200″ height=”385″ frameborder=”0″ allowfullscreen=”” data-src=”https://www.youtube.com/embed/iCZl8G0QXlY?rel=0&hd=0″]

2. التشوُّه الفكري:

يرفض المصاب بمرض المثالية الوقوع في الخطأ رفضاً قاطعاً، معتقداً بضرورة أن يكون معصوماً تماماً عن الخطأ، مما يجعله يدمن التفكير والتخطيط قبل القيام بأيَّة خطوة من مشروع ما، الأمر الذي يجعله يميل إلى التسويف والتأجيل، أو إلى القيام بالأمر بجودة منخفضة وذلك لأنَّه استهلك كامل طاقته وتفكيره.

لا يعترف مدمن الكمالية بفكرة “التدرج في الحياة” الأمر الذي يجعله متعلِّقاً بالنتيجة فحسب، دون أن يولي اهتماماً للخطوات الصغيرة التي تثري طريق النجاح.

3. المعايير العالية:

يُقيِّد ذو الشخصية الكمالية ذاته بكم هائل من المعايير العالية والصارمة، بحيث ينظر إلى الحياة على أنَّها أبيض أو أسود، ولا يعترف بوجود المنطقة الرمادية على الإطلاق، ويُسقِط هذه المعايير على علاقته مع المجتمع، فيميل إلى نسف الأشخاص الذين لا يتوافقون مع معاييره القاسية، الأمر الذي يعرضه إلى الكثير من الخسارة والمشكلات. يمنح الشخص ذي الشخصية الكمالية الأولوية القصوى لأجندة عمله، بحيث لا يستطيع أن يحيد عنها قيد أنملة، ويكتئب بشدة في حال عدم تنفيذه الحرفي لهذه الأجندة، أي أنَّه لا يتمتع بالمرونة على الإطلاق.

4. الخوف:

يُعلِّق ذو الشخصية الكمالية قيمته على نظرة الآخر له، فيحتل كسب رضا الآخرين هرم أولوياته، فهو يعشق أن يقال عنه: “مثالي”، “كريم”، “لا يوجد له مثيل”، يخاف من إظهار ما يريد لكي لا يخسر الآخرين، فيَعتاد أن يكبت مشاعره وأن يهتم بالآخر على حساب ذاته، وينصدم تماماً في حال عدم تلقيه ذات المعاملة من الآخر.

يسعى هذا الشخص إلى النجاح ليس حباً بالتطور والارتقاء وطلباً للمتعة والسعادة؛ وإنَّما هرباً وخوفاً من الفشل، الأمر الذي يُبقِيه في حالة من التوتر والقلق حيث يشعر أنَّ الطريق للنجاح مليء بالأعباء والعراقيل، فهو يفشل في رؤية المشكلات التي تعترضه على أنَّها تحديات.

5. الإيجو العالي:

لا يستطيع ذو الشخصية الكمالية تسليم الأمور إلى الله؛ بل يعتقد أنَّ عليه القيام بالأمور على أكمل وجه، ويكتئب في حال عدم وصوله إلى النتائج كما هو مخطط لها، أي أنَّه يرى ذاته هو المسؤول مسؤولية مطلقة عن حياته، الأمر الذي يجعله في حالة من التوتر الدائم، فهو لا يستطيع أن يكون مرناً ويتقبل فكرة “السعي وفق الإمكانات المتاحة ومن ثم تسليم النتائج إلى الله”.

ما هو علاج المثالية المفرطة؟

1. المرونة:

احتفِل بمنطقة اللَّاشيء، وامنح جسدك وروحك وعقلك قسطاً جيداً من الراحة، فالحياة قصيرة ولا يجب أن تعيشها مع الجديَّة المفرطة والمثالية المقيدة، فلا مانع من قليلٍ من الفوضى في حياتك، اسأل نفسك على سبيل المثال: “ماذا سيحدث إن لم تقم بترتيب مكتبك الآن؟”، “هل ستكون هناك نتائج كارثية إن لم تلتزم بشكل حرفي بأجندتك اليوم؟”، لا تضخم الأمور، وتُرهِق روحك وذاتك، فليست نهاية العالم إن لم تقم بجميع المهام المخططة في أجندتك. اسعَ في الحياة ولكن دون أن تستهلك طاقتك وتفكيرك إلى أقصى حد، بحيث تفقد المتعة والحماس والألق.

2. السعي ضمن المتاح:

خُلِقنا لكي نسعى ونتطور ونرتقي، ولكن لا يجب أن يتحول السعي إلى حالة من المشاعر السلبية، بحيث يُسبِّب لنا ضغطاً نفسياً كبيراً بسبب التعلق الشديد بالنتيجة مع تجاهل الطريق المؤدي إليها. لا تُقيِّد نفسك بمعايير غير منطقية بحيث تشعر أنَّ إمكانياتك لا تتناسب مع طموحاتك؛ بل حافظ على ثقتك بنفسك، وتأكَّد أنَّ “مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة”، لذلك قَسِّم هدفك العظيم إلى أهداف صغيرة، واسعَ ضمن إمكانياتك المتاحة، وضع الغاية النهائية في عقلك، ولا تنسَ الاستمتاع في الخطوات الصغيرة، فهي التي ستوصلك إلى غايتك.

3. التعلم في أثناء التنفيذ:

لا تنتظر أن يكون كل شيء مثالياً لكي تبدأ العمل؛ بل ابدأ بالخطوة الأولى وستتعلم في الطريق. يقع كثيرٌ من مدمني المثالية في فخ التسويف وتأجيل أهدافهم إلى أن يكون الجو مثالياً، الأمر الذي يبعدهم كثيراً عما يريدون ويطمحون.

اعلم أنَّ كل العظماء لم يبدؤوا بدايات مثالية؛ بل بدأوا بخطوات صغيرة ومن ثمَّ وصلوا إلى نتائج عظيمة. ابدأ فقط وما تبقى سيأتي في الطريق.

4. الاختلاف:

لا تستطيع أن تفرض على الآخر تبنِّي قيَمك ذاتها، فعليك أن تتقبل اختلاف سويات الوعي والأخلاق بين شرائح المجتمع، فلا يجوز أن تعكر صفو هنائك من جراء عدم تطابق الآخرين مع قيمك؛ بل عليك تقبل الاختلاف والسعي إلى الأخذ بيد الآخر ليكون أفضل وأرقى. تواصل مع الآخر وقم بتوسيع دائرة معارفك، وضع نفسك مكان الآخر في كل شيء، فعندها تستطيع تقبل اختلافهم عنك.

5. المسودة المبدئية:

لكي تكسر خوف البدايات لديك، وتتخلص من التسويف الدائم إلى حين اكتمال المعلومات والترتيبات والتحضيرات؛ تستطيع بناء مسودة مبدئية للمهمة التي تنوي القيام بها، فإن كنتَ من كاتبي المقالات، وتريد أن يكون مقالك مثالياً، فما عليك إلَّا رسم مسودة مبدئية لمقالك، لكي تكسر ذلك التوتر المترافق مع رغبتك بأن يكون المقال مثالياً، وتستطيع بعدها البدء بكتابة المقال بمشاعر إيجابية وبمستويات توتر أقل بكثير.

6. التعلم من الأخطاء:

خلقنا الله خطَّائين، ولو أرادنا مثاليين لخلقنا كذلك؛ بل أراد أن نتطور ونرتقي متعلِّمين من أخطائنا للوصول إلى أفضل نسخة من ذواتنا، لذلك تُعدُّ استراتيجية التعلم من الأخطاء من أفضل استراتيجيات التعلم على الإطلاق، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض معصوم من الخطأ، لذلك احتفل بأخطائك وتقبَّلها فهي فرصتك لتكون أفضل وأرقى.

7. الحب والمتعة في الإنجاز:

أعطِ نفسك حقها، ولا تبخسها هذا الحق، واحتفل بكل إنجاز تقوم به مهما صغر، فالخطوة الأولى هي السبب في النجاح الكبير اللاحق. ضع المتعة والسعادة ضمن قيمك، وفعِّلها على أرض الواقع، بحيث تعتاد تنفيذ المهام وأنت سعيد. اسأل نفسك عن شغفك في الحياة، واسعَ إليه بحبٍّ متخطياً جميع مخاوفك وهواجسك التي لا مبرر لها.

8. التسليم:

تعلَّم مهارة التسليم، فهي من أهم المهارات على وجه الأرض، واسعَ إلى الأفضل وفقاً لما هو متوافر بين يديك، وسلِّم ما تبقى إلى الله (القوة المطلقة)، وإلا تضخم الإيجو لديك، فتتعامل مع ذاتك على أنَّك المسؤول الأول والأخير عن كل ما هو موجود في حياتك، من دون أي رحمة بنفسك، ومن دون أي ذكر لله؛ وعندها ستتحول حياتك إلى جحيم، فنحن لا نصل إلى السلام الداخلي دون امتلاكنا لمهارة التسليم لله والثقة به.

الخلاصة:

لا تكن مثالياً؛ بل كن طبيعياً وعفوياً، وعبِّر عن مشاعرك ومكنوناتك الصادقة دون خوف من خسارة الآخرين، واحتفِ بأخطائك فهي فرصتك لكي تكون أفضل وأنضج وأرقى، وابنِ معاييرك الذاتية بحيث لا تقيدك؛ بل اجعلها تعمل لأجلك، ولا تحكم على الآخرين بصرامة؛ بل ضع نفسك مكانهم وكن رحيماً بنفسك وبغيرك.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6

Source: Annajah.net
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!