من الأسباب الأساسية والخطيرة لانتشار عدد من البدع في هذا العصر مشاركة بعض العلماء والدعاة والخطباء في الاحتفال بها.
والملاحظ أن كثيراً من البدع في العصر الحديث قد اندثرت ونسيها الناس؛ لا لأنهم عرفوا أنها ضلالة، ولكن لأن الحياة المعاصرة بمشاكلها وأنماطها الجديدة صرفت الناس عن تلك البدع، كما شغلتهم ملهيات العصر عن تذكرها والاهتمام بها، بل صرفت كثيراً من الناس عن الالتزام بالدين.
وكان الأولى بهؤلاء العلماء والدعاة والخطباء في هذه الحال أن يستثمروا هذا الفراغ الديني، وينتهزوا فرصة انصراف الناس عن كثير من بدع العبادات والأعياد والاعتقادات ليقيموا السنن ويهدموا البدع، ويبذلوا الجهود للقضاء على ما تبقى لدى الناس منها، ولكن.. -ويا للعجب!- يشارك بعض العلماء والدعاة والخطباء في تأصيل عدد من البدع، حتى البدع التي زالت ونسيها الناس! كما في الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب، فيبدأ خطباء المساجد في سرد قصة الإسراء والمعراج وبيان ما فيها من دروس وعبر، وكثير منهم يعتمد على كتب غير محققة ولا موثقة من بعض كتب خطب المواسم المليئة بالأخطاء، ومن العلماء والدعاة من يشارك في احتفالات هذه الليلة في وسائل الإعلام من صحف وقنوات فضائية وغيرها بمحاضرات أو كلمات بحجة مصلحة الدعوة، أو بسبب الضغط الإعلامي أو الاجتماعي أو غير ذلك.
والذي يدقق النظر قليلاً في أغلب احتفالات الإسراء والمعراج يلاحظ أن ما كان يقع فيها قديماً من منكرات العامة والتي ذكرها العلماء قديماً، مثل إيقاد الشموع والمصابيح فيها على المنارات، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس والمليئة بالأباطيل، وكذلك ما كان الناس يفرشونه من البسط والسجادات لذكرى الإسراء والمعراج خصوصاً، والاختلاط بين النساء والرجال، والخلط بين قراءة القرآن وقراءة الأشعار بألحان مختلفة، كل هذا وغيره ندر أن يقع في هذه الأيام، ويلاحظ أن الذي يقيم احتفالات الإسراء والمعراج في هذه الأيام ويذكّر الناس بها في 27 من شهر رجب هم عدد من خطباء المساجد وبعض العلماء والدعاة، وهذا يعني أن البدع التي تكاد أن تزول من حياة الناس يتسبب عدد من الدعاة والخطباء في إعادتها بمشاركتهم فيها وعدم إنكارهم لها.
ولا أظن أن هؤلاء الذين يشاركون في احتفالات ليلة الإسراء والمعراج من الدعاة والخطباء يجهلون الحقائق الآتية:
أولاً: لا يوجد نص في الكتاب والسنة فيه دلالة على مشروعية الاحتفال بتلك الليلة والتذكير بفضلها:
ولم يرد أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ أو أحداً من الصحـابة احتفل بهذه الليلة سـواء لغرض الذكرى أو التذكير بما فيها من عبر أو بسبب فضلها وشرفها، وهذا دليل على أن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة محدثة، لأن العبادات توقيفية، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها- أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، وفي رواية لمسلم: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”.
ثانياً: لا يعرف أحد على وجه التحديد متى حدث الإسراء والمعراج؛ فكيف يُخصص 27 من رجب للاحتفال بها؟
والقول بوقوع الإسراء والمعراج في 27 من شهر رجب خصوصاً من الأقوال المردودة، فقد اختلفـت أقوال العلماء اختلافاً شديداً في تحديد تاريخ الإسراء والمعراج، قال المباركفوري في الرحيق المختوم: “وقع حادث الإسراء والمعـراج، واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى:
1 – فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبري.
2 – وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووي والقرطبي.
3 – وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة.
4 – وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهراً، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.
5 – وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.
6 – وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.
وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأول بأن خديجة -رضي الله عنها- توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء.
أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحداً منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جداً”.
وقال أبو شامة: “وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب، وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب”(1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، لـيس فيها ما يُقطـع به، ولا شُرع للـمسلمين تخصيص الليلة التي يظـن أنها ليلة الإسـراء بقـيام ولا غيره”(2).
ثالثاً: موقف العلماء أن الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعة محدثة واضح ومعروف:
قال ابن النحاس في كتابه (تنبيه الغافلين حول بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج): “إن الاحتفال بهذه الليلة بدعة عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين”(3).
وقال ابن الحاج: “ومن البدع التي أحدثوها فيه أعني في شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج”(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها، والله _سبحانه وتعالى_ أعلم)(5).
وأجدر بالعالم أو الداعية أو الخطيب ألا يقع تحت تأثير منصب أو مكانة جهة تدعوه للمشاركة في الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، وأن يواجه طلب المشاركة بما ينبغي لكل عالم وداعية وخطيب أن يواجه به كل طلب للمشاركة في احتفالات غير مشروعة، وهو أن يبين الحق للناس، ولا يطيعهم في طلبهم، ولا يشاركهم في باطلهم حتى لا يفتنهم، قال _صلى الله عليه وسلم_: “إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها”. قال ابن مسعود: كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: “ليس _يا ابن أم عبد_ طاعة لمن عصى الله”. قالها ثلاثاً(6).
إن مصلحة الدعوة أن نهدم البدعة لا أن نقيمها، وأن نميتها لا نحييها، ومهما قيل من دروس في ذكرى الإسراء والمعراج فإن الناس لا يتذكرون في الغالب إلا أن فلاناً العالم أو الداعية كان يحتفل مع الناس في تلك المناسبة، فتتأصل به في نفوسهم البدعة أكثر مما تتأصل عبر المناسبة ودروسها في قلوبهم، ولذا فإن ترك المشاركة في البدعة وسيلة مهمة وضرورية لإماتتها، كما ترك ابن عمر _رضي الله عنهما_ المسجد مبالغة في إنكار البدعة، ولأنه قدوة يقتدى به فلا بد أن ينكر، فعن مجاهد قال: “كنت مع ابن عمر فثوَّب رجل في الظهر أو العصر. قال: اخرج بنا فإِن هذه بدعةٌ”، والتثويب هنا هو مناداة المؤذن بعد الأذان: الصلاة رحمكم الصلاة. وفي رواية: “دخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه فسمع رجلاً يثوّب في أذان الظهر فخرج وقال أخرجتني البدعة”(7)،.
ومن أراد أن يذكّر الناس بما في السيرة النبوية الشريفة من أحداث مهمة ودروس عظيمة، فهذه أيام السنة كلها بطولها وعرضها، فلماذا لا يذكّر الناس في أحد أيامها بالإسراء والمعراج في خطبة أو محاضرة أو لقاء تلفزيوني أو مقال دون تخصيص ذلك اليوم بالمناسبة أو اتخاذه عادة مبتدعة! أليس هذا أفضل من أن يقر الناس على بدعة ويؤصلها في نفوسهم! أليس هذا أسلم للناس وله من الوقوع في ضلالة البدعة ووزرها وعقوبتها! ففي الحديث المشهور قال _صلى الله عليه وسلم_: “كل بدعة ضلالة”، وأخرج ابن ماجه في سننه أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: “من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً”(8). وفي الحديث الصحيح وعن أنس بن مالك _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: “إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته” رواه الطبراني وإسناده حسن(9).
______________
(1) انظر: الباعث، ص (171). نقلاً عن البدع الحولية للشيخ عبدالله بن عبد العزيز التويجري، الفصل الرابع – المبحث الخامس.
(2) نقله ابن القيم عن شيخ الإسلام، انظر: زاد المعاد (1/57). نقلاً عن المرجع السابق.
(3) تنبيه الغافلين، ص (379، 380). نقلاً عن المرجع السابق.
(4) المدخل (1/294). نقلاً عن المرجع السابق.
(5) مجموع الفتاوى (25/298). نقلاً عن المرجع السابق.
(6) سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد السادس، رقم 2864.
(7) رواه أبو داود ( 538 ) وعنه البيهقي ( 1 / 424 ) والطبراني في ” الكبير ” ( 3 / 203 / 2 ) عن سفيان ثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد قال: ” كنت مع ابن عمر فثوب رجل في الظهر أو العصر قال: أخرج بنا فإن هذه. بدعة “. انظر إرواء الغليل، رقم 236، (حسن). قال الألباني: ( (فائدة ) التثويب هنا هو مناداة المؤذن بعد الأذان الصلاة رحمكم الصلاة، يدعو إليها عوداً بعد بدء. وهو بدعة كما قال ابن عمر _رضي الله عنه_ وإن كانت فاشية في بعض البلاد).
(8) سنن ابن ماجه, كتاب المقدمة, 15- باب من أحيا سنة قد أُميت, قال الألباني: (صحيح), رقم 209.
(9) وأخرجه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، المجلد الأول، 2 كتاب السنة، 2- الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء (صحيح).