“التحول”.. سارقان ينتقلان من الجريمة إلى فضح ألاعيب البنوك

نال مدير أهم بنك في إيطاليا وآخر هو لص للبنوك شهرة واسعة بفضحهما جميع الفظائع المتفشية في القطاع المصرفي الوطني والدولي. فما الذي فعلاه لينالا كل هذه الشهرة؟

“أدركت أهمية أن تُواجه هذا العالم البنكي المليء بالغش والاحتيال من خلال الكتابة لكشف ما يحدث”.. لقد “كانت المتعة والإثارة حاضرة دوما عندما أصعد على خشبة المسرح، أبدا لم أختبر شيئا بهذا الجمال، هذا الفن (الكتابة والتمثيل) لو كنت عرفته منذ زمن لما دخلت السجن وبقيت فيه 30 عاما، بل لما دخلت السجن ولا لحظة واحدة”.

الكلمات السابقة هي مقتطفات لشخصين اثنين نالا شهرة كبيرة في إيطاليا، الأول كان مديرا لأهم بنك في إيطاليا، والثاني كان لص بنوك.

 

لقد خاض الاثنان تجربة السجن طويلا قبل أن يتحولا إلى الإبداع رغم نشأتهما ومسيرتهما المهنية المختلفة تماما، بل المتناقضة، لكن الإبداع -وعلى الأخص الكتابة- كان بمثابة المنقذ لهما من الضلال ومن سنوات السجن الصعبة أو القاتلة.

المدير واللص.. تناقضات تجتمع في سجن واحد

نتعرف هنا على حكاية الرجلين، وكيف تعرضا لهذا الانقلاب الدراماتيكي في حياتيهما ضمن أحداث الفيلم الوثائقي الإيطالي “التحول” (The Conversion) من إنتاج عام 2021 ومدته 91 دقيقة للمخرج “جيوفاني ميولا”، والذي حصد جائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ19 من مهرجان روما السينمائي المستقل، كما حصد جوائز أخرى بالمهرجانات الدولية.

وإن كان المخرج ذاته قدم عرضا مسرحيا في عام 2018 عن تحول مدير بنك سابق بعد ربع قرن في خدمة أهم بنك إيطالي، مستنكرا جميع الفظائع المتفشية في القطاع المصرفي الوطني والدولي بأكمله في العشرين سنة الماضية.

الأمر المدهش بهذا الفيلم ليس فقط قدرة المخرج على أن يجمع بين الرجلين، لكن أيضا اعترافات الاثنين العميقة في صدقها وجرأتها. فإذا كان “بيبه” لص البنوك الذي قضى 30 عاما في السجن ثم أصبح اليوم كاتبا مسرحيا وممثلا مشهورا قد واصل الكتابة للمتعة والإثارة المتحققة من فعل الكتابة، فإن “إنزو” يعترف أنه مارسها لأجل الانتقام، ولأنه لم يكن يريد أن يُهزم، ولأنه تربى على عدم تقبل الهزيمة.

يقول إنزو: في آخر عشرة أشهر لي في البنك، لم أكن أفعل أي شيء فعليا، في هذه الغرفة (يقصد مكتبه بالبنك) بدأت أجمع الأدلة وأرفقها إلى جوار بعضها البعض، وفي هذه الغرفة بدأت تنضج الفكرة، فكرة الكتابة من أجل الانتقام.

إنزو وبيبه أثناء إعداد وجبة الغداء وحديث مليء بالاعترافات

لا شك في أنه لقاء تاريخي بهذا الفيلم الوثائقي يجمع بين المسرحي “بيبه” لص البنوك السابق الشهير بسيرته الذاتية “أرض الشيطان” ويعترف بأنه لا يتذكر عدد السرقات التي قام بها، وبين “فينتشنزو إمبراتور” الشهير بلقب “إنزو” والذي عمل نحو 22 عاما في المجال البنكي قام خلالها بسبع سرقات، إلى جانب ممارسة الغش والاحتيال المصرفي، حتى أصبح مديرا لأشهر البنوك في إيطاليا، ثم اشتهر بمقاله “أنا أعرف وأمتلك الدليل”، فانقلب العالم البنكي في إيطاليا على أثر ذلك، وأصبح الآن مستشارا ضد الانتهاكات المصرفية.

الكتابة ضد الخونة.. وسيلة إنزو للانتقام

يُؤكد “إنزو” أنه عندما قرر الكتابة كان يريد أن ينتقم من رموز هذا النظام المصرفي الذين خانوه. فهو يقارن بين ما فعل وما فعلوا خلال هذه السنوات، ويبدو أن تصرفه الكاشف كان أيضا نوعا من التعويض الأخلاقي.

يقول إنزو: كنت أعرف أنني أستطيع استخدام هذا السلاح، فاتصلت بالناشر الوحيد الذي له الحق في ذلك، وبعد أن قرأ النص المكتوب أخبرني أن بين يدي قنبلة ستنفجر بأسرع مما أتخيل، وعلى أن أكون مستعدا لأن حياتي ستتبدل في الغد.

هنا يسأله بيبه: لكن هل حقاً تقوم البنوك بكل هذا الغش؟

إنزو: بشكل جزئي وغير واضح.

بيبه: أعتقد أنك فعلتَ أكثر مما فعلتُ أنا من سرقات، فقد قمت أنت والبنك بالكثير من الغش. (يضحك مازحاً قبل أن يُضيف): لكن أخبرني لماذا تركت عالم البنوك؟

إنزو: بسبب الكثير من الغش.

بيبه: أخبرني ما الذي أوجعك وجعلك تشعر بأنك لم تعد قادرا على الصمود بهذا العالم؟

ردا على سؤال الممثل المسرحي وبأسلوب ظريف يربط إنزو بين تعاليم الطفولة وتكوين وبناء الشخصية وتصرفها لاحقا في مختلف مراحلها العمرية، إذ يعود إنزو لتاريخ طفولته لتفسير الروح التنافسية الموجودة بداخله، والتي نمَّت مواهبه في عالم البنوك، فقد نقله والده -هو ورفاق طفولته- من اللعب بالشارع وضمهم لمعهد لممارسة الألعاب الرياضية رغبة في إذكاء وتوجيه الروح التنافسية، والتي ربما تطورت إلى ما يسميه أهل نابولي “كازيما” أي العدوانية، والرغبة في عدم الخسارة أبدا.

“فينتشنزو إمبراتور” الشهير بلقب “إنزو” والذي عمل نحو 22 عاما في المجال البنكي قام خلالها بسبع سرقات

 

لاحقا كان إنزو يتساءل ويجيب: كيف تخلق إنسانا قادرا على قبول الهزيمة؟ من هنا اكتسبت الوعي، وأدركت أنني لم أكن أريد أن أخسر، لذلك قمت بجمع الأدلة وكشف الغش في البنوك، ثم لاحقا أخبرني طبيب نفسي أننا لا نريد تقبل تشكيلة أو فكرة الهزيمة.

ثم يستعيد إنزو نماذج من تصرفاتهم بأرض الملعب تدلل على فكرة رفض الهزيمة من الناحية السيكولوجية، مؤكداً أن التنافسية تتجلى في كل شيء.

حيل البنوك.. كيف تُسرق أموال الناس؟

ومما يستعيده إنزو بداية رحلته البنكية منذ الخطوة الأولى وبداية درجات السلم منذ اكتشاف موهبته في البيع، خصوصا مع بوليصات التأمين وتكنيك البيع، وقدرته على الإقناع والخداع التي مكنته من بيع المليارات من بوليصات التأمين على الدخل، إذ اخترع فكرة “المخزن أو المستودع” واتصل بالعملاء، مدفوعا بإلحاح رؤسائه “يجب أن نبيع.. يجب أن نبيع”.

يقول إنزو: كنت أتصل بالعملاء وأخبرهم أن لدي عرضا مغريا جدا لهم. كنت أكشف بوضوح عن نقاط القوة في العرض وأركز عليها، أما العيوب فأُخفيها.

حقق إنزو نجاحا لافتا، لدرجة أنه أصبح قدوة ومدرسا لزملائه في سُبل الغش والخداع، مثلما أصبح ضيفا على البرامج والحوارات والمؤتمرات بعد القنبلة التي فجرها، وذلك بكشفه لحيل هؤلاء (رجال البنوك) الذين يعتقدون أنهم أذكى من الآخرين.

“بيبه” لص البنوك الذي قضى 30 عاما في السجن ثم أصبح اليوم كاتبا مسرحيا وممثلا مشهور

يقول إنزو: بعض العملاء اكتشفوا الخديعة فعادوا للبنك يصرخون، هنا كان على البنك شراء صمتهم وإعادة أموالهم إليهم حتى يكفوا عن الصراخ لئلا ينتبه الآخرون للغش، فقد تم اختراع 850 مليون صندوق استثماري خلال ثلاث سنوات فقط، وكان هناك الغش والاحتيال على 3.5 مليارات يورو على الأقل.. إن النظام بأكمله قائم على الغش ومزيد من الغش، على المكافأة والفوائد.

يسأله بيبه: قدم لي نموذجا، كيف يغشون؟

إنزو: لنفترض أنني ذهبت لإيداع أموالي في البنك، سأكون موضوعا تحت الدراسة والضغوط السيكولوجية، سيقولون لي: اسمع، عليك أن تشتري منتجا آخر إضافيا.

بيبه: ولكن ماذا عن الدين، كيف أسدد ثمن المنتج الآخر؟

إنزو: سأمنحهم قرضا ليشتروا به هذا المنتج القذر؟ مثلا مَنْ يريد قرضا لشراء منتج معين بنحو عشرة آلاف يورو، هنا أقول لهم “سأمنحكم 15 ألف يورو لتشتروا ما تريدون، والـ5 آلاف الأخرى لشراء المنتج الذي أعرضه عليكم. هنا بهذا العرض يُحضرون أموالهم من دون أن يسألوك أي سؤال عن أي شيء، أو عن الشروط الجزائية، وقد اعتدتُ أن أبيع لهم منتجات قذرة.

يكشف هذا الحوار بين الاثنين وباعترافات إنزو أن القاعدة التي بني عليها هذا النظام المصرفي في أن المخاطرة الضئيلة تستوجب ثمارا ضئيلة أيضا، والمخاطرة المنخفضة أرباحها دائما منخفضة، بينما المخاطرة الكبيرة هي وحدها التي قد تأتي بمكاسب كبيرة. إذن السؤال عن فكرة “المخاطرة صفر التي تحقق أرباحا عالية” ليست سوى أكذوبة، لا يوجد شيء حقيقي بهذا المعنى، لا وجود لها كما يؤكد إنزو، فرجال البنوك ليسوا من عشاق المخاطرة. إنها كذبة أخرى، إنهم جشعون جدا ومخادعون.

يتطرق مدير البنك السابق بعد ذلك إلى طرح نماذج من الغش المصرفي وخداع العملاء والتحايل عليهم من خلال الأسلوب النفسي والضغوط والمساومة لبيع أفكار ومنتجات تبدو مغرية في مكاسبها العالية، لكنها مرهونة بشروط قاسية في جوهرها، وهذه الشروط لا تكون واضحة في العادة ولا يُعلنها البنك كشرط جزائي. وعندما يحتاج العميل أمواله لأي سبب يخترق الشرط الجزائي، فيُحقق ذلك مكاسب للبنوك، لكن العملاء يخسرون ليس فقط مكاسبهم، ولكن أجزاء كبيرة من أصول أموالهم.

بعد السجن.. التحول من الهلاك إلى الافتداء

لا تتوقف قيمة تلك الاعترافات عند جرأتها، لكن أيضا في أنه خلال هذا اللقاء الملهم يتم تجسير الكثير من العلاقات والجوانب في شخصية الإنسان والمجتمع والاقتصاد، فأثناء تعرف الرجلين على بعضهما البعض يُدرك المشاهد كيف تغلبا على صعوبات الحياة ورحلتيهما من عالم المال حيث السرقات والغش، وكيف أفلتا من هذه الدائرة الجهنمية من اليأس والإحباط من حياة السجن، من عدم التصديق أن حياتيهما خارج السجن قد اختفت وانتهت تماما، من ذلك الشعور المخيف والمرعب بشكل لا يُصدق، وكيف تحولا من الهلاك إلى الافتداء، إذ كتبا سيرتيهما وصارا مبدعين.

المخرج أثناء العرض المسرحي الذي قدمه عام 2017 عن كتاب “اعرف وامتلك دليلا”

يقول بيبه: كنت أقول إنه يستحيل أن أظل في السجن كل هذه السنوات، لكنني عندما أدركت الحقيقة بأن السجين لن يُولد أبدا خارج السجن، فربما تراودك الخواطر بأنك إذا خرجت ستولد من جديد، لكن الحقيقة أنه عليك أن تخلق لنفسك حياة جديدة داخل السجن، عليك أن تخلق بداخلك حياة جديدة.

ثم ينتقلان للحديث عن الأم، إذ يُشير إنزو بتقدير إلى والدته ووعيها وإدراكها للسلم الاجتماعي، وضرورة مواصلة التعليم العالي، حيث يُؤكد أنها “كانت قادرة دوما على منحي القوة والشجاعة، لقد وجهتني، فدور الأم المرشدة كان حاسما لي، تماما كما حدث معك يا بيبه، حتى وإن كنت أنتَ فقدت والدتك في سن الخامسة”.

عند تلك النقطة يقاطعه بيبه: أجل يا إنزو، لكني سأخبرك بعذابي، فأنت نلت الفرصة لتتعرف على والدتك في كل تحولاتها، بينما أنا فقدتها في سن لا أتذكر فيه شيئا، لم أكن قد ذهبت للمدرسة، صحيح أتذكر أنها كانت تحميني من والدي إن أراد أن يضربني، لكن أتدري ما هو عذابي الحقيقي؟ منذ أن كبرت مع امرأة ليست أمي، امرأة اعتادت أن تُدخلني في مشاكل، امرأة كانت تتخلى عن أطفالها من أجل الجنس، كذلك عذابي بسبب الذكرى العظيمة عن أمي، لنعتبرها شهيدة، لكن ماذا لو كانت أمي قد أصبحت مثل هذه المرأة، زوجة أبي؟ مَنْ على وجه الأرض يقدر أن يتخيل مستقبل إنسان آخر؟

النظام المصرفي.. إصرار على التحايل

على مدار ساعة ونصف الساعة يتدفق الحوار والاعترافات المدهشة، وأثناء ذلك نلاحظ أن الكاميرا متحركة معهما في المنزل، وترصد كافة حركاتهما العشوائية، كأنه ليس هناك مخطط سابق، فقد تركهما المخرج يتفاعلان بشكل تلقائي أثناء الإعداد لتلك الوجبة طوال الفيلم، وكأن المخرج أسس تلك المشاهد منذ البداية لنتخيل أنهما طوال الفيلم يحكيان لبعضهما البعض، بينما ربما ما يكون قد جمع بينهما فعليا لقاءان أو ثلاثة فقط، بينها لقاءان في شقة كل منهما، ليوضح التناقض البيّن في تكوين وشخصية وعالم الاثنين الذي جمع بينهما الإبداع.

المخرج أثناء توجيه بيبه لأخذ الضوء السينمائي المناسب خلال التصوير

لكن هذا لا ينفي عدم وجود مشاهد تمثيلية تخيلية تجعل الفيلم عابرا للنوعية الفيلمية، فمثلا ينتقل المخرج إلى لقطة تخيلية نرى فيها رأس بيبه وهو يطل من شرفة ممتدة حيث يتأمل نفسه وهو يروح ويجيء في حوش السجن، وكأنه يُقاوم سلبية الأفكار، إضافة لعدد آخر من المشاهد التمثيلية المعبرة عن عواطفه وأفكاره.

كما يجعل المخرج بطليه يزوران الأماكن التي ارتبطا بها، فمثلا بيبه يقوم بزيارة للزنزانة وللمسرح، للمستشفى النفسي الذي تلقي فيه العلاج عندما تورط في عالم المخدرات، بينما يزور إنزو المعهد الرياضي ومكاتب البنوك التي عمل فيها، والبرامج والمؤتمرات التي استضافته، وصور احتفاء الصحافة بكتبه الثلاثة.

يختتم كلا البطلين حديثه بخطورة دور الكتابة، إذ يقول رجل البنوك: لم أعد أريد أن اختبئ، ففي ثلاثة كتب كتبت عن كل ما رأيته خلال 22 سنة من حياتي الأخرى، ونجحت الكتب لأنها كشفت وفضحت الأفعال الخاطئة في النظام البنكي.

لقد كان إنزو يعرف الأسرار جميعها، ويدرك جيدا أشكال الخدع وأنواعها التي يلجأ إليها رجال البنوك لحماية أنفسهم، وبذلك ارتفع الوعي البنكي لدي الناس، لكن المشكلة كما يصفها إنزو أنه “منذ ذلك الحين فصاعدا لايزال النظام نفسه مستمرا حتى اليوم”.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *