الرؤى الفلسفية للمكان في لوحات العراقي بشير مهدي

(المكان مُعرفْ بشاغله، والشاغل بما يتركه من أثر) في كتاب سابق لنا عن لوحات الفنان العراقي بشير مهدي تحت عنوان «جدل الوجود وفلسفته في لوحات الفنان بشير مهدي» تطرقنا إلى الوجود بشكله العام، حيث يشمل كل المكونات الحيوية التي تم توظيفها داخل اللوحة. وهي بمجموعها تُشير إلى العلاقات العامة والخاصة، التي تكشف عن رؤى الفنان […]

الرؤى الفلسفية للمكان في لوحات العراقي بشير مهدي

[wpcc-script type=”7f291a3bba6a21455cf0e730-text/javascript”]

(المكان مُعرفْ بشاغله، والشاغل بما يتركه من أثر)
في كتاب سابق لنا عن لوحات الفنان العراقي بشير مهدي تحت عنوان «جدل الوجود وفلسفته في لوحات الفنان بشير مهدي» تطرقنا إلى الوجود بشكله العام، حيث يشمل كل المكونات الحيوية التي تم توظيفها داخل اللوحة. وهي بمجموعها تُشير إلى العلاقات العامة والخاصة، التي تكشف عن رؤى الفنان بما يحيطه، مكتفياً بالتعبير المرئي، أي محتوى اللوحة التشكيلية، كي تكون حاضنة لمجمل أفكاره، مستعيناً بجملة إشارات وعلامات لها علاقة بالحضور والغياب في المكان، أي حضور الإنسان في مخيلته وغيابها عن سطح اللوحة. ولعل عبارة (المكان بشاغله) أهم العبارات التي نبهتني إلى أمر الحضور، ضمن حالة الغياب. لذا أجد أن تطبيق هذه الرؤى على لوحات الفنان بشير مهدي، دالة ستوصلنا إلى الكثير من البنى التحليلية في لوحاته، التي هي بمجملها ينتفي وجود الإنسان في مجالها الحيوي، لذا سنعمل على تسقط تأثيرات (الغائب الحاضر) لتمثيل وجود فاعل. فالدالة البسيطة على مثل هذه الرؤى، وجود مسمار مثبت على جدار حيز مكاني ما، يعني ثمة إنسان عمل على تثبيته. فهو حاضر في ذهن الرائي، فالأثر دالة حيوية على وجوده. هكذا ستكون مسيرتنا مع لوحات الفنان الغنية بكل أشكال ومعينات إنتاج اللوحة المتكاملة، ذات الحراك والنمط الفكري الخالص. لاسيما وأن الفنان يعتمد في هذا النشاط الفني الرؤى الفلسفية المتعلقة بمفاهيم واعية في حقل الوجود وعدمه.

تداعيات تشكيلية

عالم الفنان بشير مهدي، محتشد بالرؤى الفلسفية المتمحورة حول وجود الإنسان في حيز المكان الذي غاب عنه. فالمكان في لوحاته ضاج بالمتناقضات والمفارقات والتشكيكات. بالأُلفة والوحشة معاً، الفراغ والامتلاء أيضاً، المكان الآخذ بالضيق والانحسار، رغم اتساعه، بسبب غياب الإنسان، فثمة ضاغط رئيسي على وجوده، كما توحي لنا اللوحة. من هذا نجد أن العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان المتمثل؛ هي علاقة تأمل وحوار مشوب برفض بعض مكوناته دون الإعلان عن هذا الرفض. أي أن توصيلاته؛ هي مجموعة القبول والرفض. إن اللوحة هي إضافة يتعامل بواسطتها مع الموجودات من باب الدلالة على مستوى فكري ــ فلسفي، لاسيما تجريد الأشياء، أي أنه منقاد إلى حقيقة مفادها؛ الوجود ولا جدواه، وبالتالي المكان ومحتوياته، مقابل القسوة التي تنصب على الإنسان بسبب الضاغط السلطوي، سواء كانت تلك السلطة معرفية أو اجتماعية أو سياسية.

المكان كعامل فاعل يُقيم نوعا من الجدل الوجودي، باعتماده على سردية تـُنظـم وتكشف عن محتوى أنثروبولوجي، يُحدد العلاقة بين الإنسان كذات والآخر كذات مقابلة.

مشهدية اللوحة

إن محتويات اللوحة في نصه التشكيلي ذات صفة متحركة، بمعنى يمنح المحتوى متوالية سردية، بحيث يكون المشهد ذا دافع للقراءة الحرة، ذات المستويات المتعددة في التأويل. وهذا بطبيعة الحال ينطوي على حيوية وفعالية إنتاجية تعكسها اللوحة. فالجدلية منصبة على حيوية المَشاهِدْ والمُشاهَدْ، وحركتهما الذاتية. ما يؤكد على أن إنتاج المشهد لديه يخضع إلى مكون فكري ذي دافع قوي، يخضع لدوافع جدلية الوجود، عبر مقولة، وجود أو لا وجود. وهي إنما تؤكد التحدي لا الاستسلام لما هو ظاهر وممارَس، أي أن كشف الظواهر له أبعاد ذات تأكيد على الرفض الذي هو بطبيعة الحال يحمل نوعا من التحدي. وفي هذا يلعب المكان دورا ً أساسيا في صياغة المفهوم الذي تتداوله اللوحة، إذ نجد أن الفنان يولي أهمية استثنائية للمكان، فهو مكان منعزل في معظم اللوحات، فيه محمولات دلالية، وذو نكهة تأملية، وفي آخر مكان مفتوح تحتشد ضده قوى خفية، تحاول أن تجهض فعاليته بالقهر والمحو والمصادرة. إن مكان الفنان بشير يمنح الرائي فرصة من التحاور معه باستمرار، بضاغط حيوية مخيلته، وبسبب المحتوى الذي يجسده الفنان في داخله، كذلك خلال التقنية الفنية العالية لتوظيف الألوان والخطوط الصاعدة والنازلة والأفقية، وبضمنها الضوء والظِل؛ خاصة اللون المعتق الذي يمنح أجزاء اللوحة بُعداً تراثياً، يرتبط بآفاق عمارة قديمة وإنسانية عامة. وما تتعرض إليه هذه الخطوط من الانكسارات والانحرافات، التي هي بطبيعة الحال دالات على انحراف الظواهر وانكسار مقوماتها في الوجود. إن التوزيع للرموز في المكان يضفي على محتويات اللوحة دلالات ذات صيغ متعددة المستويات في القراءة والتأويل. ويتمثل المكان عموما في حيز محدود، كالغرف وباحات المنازل والممرات والسلالم. لكنه ينفتح وفق متغير الأجزاء المكونة والمضافة. وهي الأشياء في المكان، فلا فراغ من الإنسان، مازال ثمة أثر ينطوي على خصائص غائبة حاضرة. أي أنه يُشير إلى كينونة غائبة، لكنها تركت أثرها على أشياء المكان. كذلك بكسر إطار الجدار وانفتاح المكان على سعة، سواء كان بريا ً أو مائيا ً، أو كوة من الضوء. وبذلك يُحدث هذا الانفتاح كسرا ً للنمط الذي يكبـل وجود المكان وبالتالي الإنسان ــ الحاضر الغائب ــ في اللوحة.

جدلية الوجود

كما يبدو المكان كعامل فاعل يُقيم نوعا من الجدل الوجودي، باعتماده على سردية تـُنظـم وتكشف عن محتوى أنثروبولوجي، يُحدد العلاقة بين الإنسان كذات والآخر كذات مقابلة. وهذه الأمكنة تتشاكل فيها المحتويات باعتبارها رموزا دالة على ما يُعين السرد في كشف المعاني. وهذا أيضا ما توحي به الأمكنة المنفتحة على فضاءات برية أو مائية أيضاً. فالفراغ في الكادر مثلاً مكون يؤدي وظيفة التعبير عن التباعد في المسافة، سواء كانت أفقية أو عمودية، أي أنه يوحي بصعوبة اتصال الأشياء مع بعضها. وهذا لا يدل على القطيعة، بقدر ما يدل على المسبب الذي أشرنا إليه، أي ثمة قوة قاهرة خفية تـُزيد من هذا التباعد والفرقة بين الأشياء وقوة أُخرى مقاومة، أي أن الصراع قائم وأزلي ما زالت الأفكار على تطور، والرؤى على تسارع حيوي، أي أن السلطة القاسية والمطلقة ــ في نظر الفنان ــ تمتلك وسائل إدامة هذه المسافة التي يرصدها الفنان، بالدلالة مقابل العمل على التشبث بالأثر أو الظِل الذي يخلق معادلاً موضوعياً، يُشير إلى معادلة الغياب والحضور. المكان يتجسد بمعالمه المتروكة، ومن هذه العلامات (الضوء والظِل، الفراغ، اللون، الانكسار) وهي محاور تبنتها اللوحات لعكس المعنى المراد التعبير عنه، الذي هو في مجمله حراك فكري وجودي، يتضمن حشدا من الأسئلة المضمرة، التي تكشفها محتويات اللوحة ومكوناتها.

٭ ناقد عراقي

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *