بوريس سيرولنيك: نقرأ… فنصنع لأنفسنا كونا يليق بنا

يعد بوريس سيرولنيك ــ مواليد 26 يوليو 1937 ــ أحد أهم الباحثين الفرنسيين في المجال العصبي – النفسي، ويعمل أستاذاً ومديراً للأبحاث في جامعة طولون بجنوب فرنسا. قدّم عدداً كبيراً من الكتب التي لاقت نجاحاً كبيراً، منها .. «أنقذ نفسك فالحياة تناديك»، «الحديث عن الحب على حافة الهاوية»، «همس الأطياف»، و»الأرواح الجريحة» وغيرها. هذه ترجمة […]

Share your love

بوريس سيرولنيك: نقرأ… فنصنع لأنفسنا كونا يليق بنا

[wpcc-script type=”210743992b42c8cc1b71f0a3-text/javascript”]

يعد بوريس سيرولنيك ــ مواليد 26 يوليو 1937 ــ أحد أهم الباحثين الفرنسيين في المجال العصبي – النفسي، ويعمل أستاذاً ومديراً للأبحاث في جامعة طولون بجنوب فرنسا. قدّم عدداً كبيراً من الكتب التي لاقت نجاحاً كبيراً، منها .. «أنقذ نفسك فالحياة تناديك»، «الحديث عن الحب على حافة الهاوية»، «همس الأطياف»، و»الأرواح الجريحة» وغيرها. هذه ترجمة حديثة لأحد حواراته الصحافية عن القراءة ودورها للفرد والمجتمع.

■ إلى متى ترقى أول ذكرى من ذكريات القراءة لديك؟
□ لدي ذكرى محددة .. لقد اختفى والدَيَّ إبَّان الحرب. لم يكونا في عداد الموتى، بل اختفيا. استضافتني أسرة في مدينة بوردو، أسرة من «الصالحين بين الأمم»، أسرة فارْج. ذات يوم، بعد حرب التحرير، بينما كنت ألهو أسفل الخوان سمعت السيدة فارج تعاتب ابنتها مارغو قائلة:» لكن ألا تدركين إذن بأن والديه لن يعودا أبدا؟ أبدا». كنت أبلغ من العمر سبعة أعوام، أدركت أن والديَّ ماتا. ميتان ـ مختفيان؛ لن أمتلك أبدا شهادة وفاتهما. قد يبدو لكم الأمر مستغربا، لكن أول ردة فعل لديّ كانت أن قلت مع نفسي: «يجب أن أتعلم القراءة إذ لابد أن الصحف تحدثت عنهما، هكذا سوف أعلم مَن هما». نشأت هذه الرغبة أيضا من إرادة فهم ما قد يقع داخل رأس الآخرين. كان لديّ حدس مبكر بأن الكتب وحدها ما يسمح بذلك: الاطلاع على عوالم ذهنية أخرى. كما أردت أيضا التمكن من كتابة قصة أبويَّ، حتى أضفي بعض الكرامة على اختفائهما، مثل جورج بيريك. وفي الوقت نفسه كنت آمل أن أصبح طبيبا حيث قيل لي إن ذلك ما كانت تحلم به أمي. هذا إذن هو المنطلق الاستيهامي لمسار حياتي. كنت أحدث نفسي أن لا شيء يجعلني أكثر سعادة من أن أكون طبيبا وكاتبا.
■ في كتابك الأخير «ليلا أكتب شموسا» ذكرت أن الكتب كانت لك بمثابة طوق نجاة كيف ذلك؟
□ بعد حرب التحرير، خلافا لما سبق، عشتُ الخواء العاطفي. انتقلت من مؤسسة إلى أخرى. كثير منها كانت تسيء المعاملة، فيها مراقبون يتصرفون معنا بعداوة وغلظة. الجمال الوحيد الذي كان متاحا لي هو حلم اليقظة. كان للكتاب تلك المزية الهائلة، إنها تمنحني مبررات للحلم في اليقظة. كانت تعينني كي أصنع لنفسي قصصا. لم أكن أقرأ كما أفعل اليوم، بغية جني أفكار أو قضاء وقت ممتع، كان الأمر مغايرا تماما. حلم اليقظة يسمح بأن نصنع لأنفسنا كَوْناً يليق بنا. وقفت على هذا الأمر عند أطفال دور الأيتام الرومانية. كانوا يبدعون أكوانا من الجمال بواسطة ورق تغليف الحلويات، وخيوط مذهَّبة، ويتصورون لها أمًّا أعطتها لطفلها، كانوا يستخلصون من ذلك أحلام يقظة عجيبة، غالبا ما تكون فيها حيوانات. كانت تلك الألعاب تسمح لهم بقدح شرارة إحساس عاطفي. أتذكر في ما يخصني حلم يقظة فيه وجدت جذع شجرة مجوَّفا؛ كنت أنزل تحت الأرض؛ هناك أجد النور وحيوانات بقربها أجد ملجأ يقيني من غلظة العالم الشديدة. كنت أعيش في عالم منقسم. من جهة، هناك الواقع الدنيء، السيئ، القاتل، العدواني، المحتقِر. ومن جهة ثانية، يوجد عالم الجمال والدفء، والحنو، الذي نشعر به بشدة. فعل القراءة والحلم فتح لي باب ذلك الكون.
■ سواء تعلق الأمر بأبطال خارقين أو أميرات، فإن الأطفال يعلنون شغفهم في أغلب الأوقات بأبطال نمطيين. لماذا؟
□ الحاجة إلى أبطال دليل على قابلية للعطب، إذا كانت لدينا ثقة في الذات، لن نكون في حاجة إلى أبطال، بل نحتاج وحسب إلى اللهو مع شخص نُقَدِّره. إن صبية تلهو بكونها أميرة تبحث عن صورة تعويضية. لا تشعر أنها أميرة، وهي في حيرة من ذلك. حينا يحلم صبي بأنه سوبرمان، فتلك علامة على أنه يشعر بنفسه صغيرا. هو في حاجة إلى الحلم بأن يصير ذات يوم كبيرا وقويا. نجد هذه الآلية عند البالغين الراشدين. ليس الأثرياء هم من يهوى العائلات الملكية، بل الناس من الشعب. وقد حدث لي مرارا أن صادفت ناسا فقراء جدا، يبذرون أموالا طائلة في ألعاب القمار، كانوا يحلمون، من خلال هذه المصاريف بالربح ذات يوم تلك الأموال التي كانوا في حاجة إليها. يتعلق الأمر بآلية تعويضية، جديرة بالاحترام لكنها تعبر عن شعور بالقلق. ونلحظها أيضا على المستوى الجَمْعي. في زمن الحرب، يعج الأدب بجنرالات شجعان وجنود لهم وسامة يضحون بأنفسهم، وآخرين بسطاء، وجنود من الدرجة الدنيا، مع فكاهة لا تخلو من ضراط؛ بينما في زمن السلم، فإن هذه الشخصيات تضجرنا، ولا ندرك مغزى تلك الفكاهة. لم نعد في حاجة إليها.
■ هل طريق إسقاط ذاتنا في التخييل هي نفسها، سواء أكنا نقرأ كتابا أو نشاهد فيلما أو رسوما متحركة؟
□ كلا، لأننا لا نفكر بالطريقة نفسها، حينما أقرأ أو أكتب، فأنا استعمل مجرَّدات: خشبات وأقراص وحروف. هذه العلامات المجردة هي التي تقدح شرارة العاطفة، والعناية بالشيء، والتفكير.. حينما أشاهد أميرة تركب عربتها في التلفزيون، فإن انفعالي ناجم عن صورة. قد تكون العاطفة مستلذة في الحالين معا، لكن الأداة التي تقدح الشرارة مختلفة: اعتباطية العلامة من جهة، والصورة من جهة ثانية. المكتوب يدعم فكرا مجردا، بينما الصورة تحرك فكرا يعتمد التشبيه. الفكر بالصورة أكثر قِدَما، إنه الفكر السائد عند الفلاح القروي، الذي يكون هو المبادر إلى ملاحظة أن الأرض ينقصها الماء، أو عند تاجر الخيول الوحيد الذي يرى أن الحصان به عرج. إنني أقيم هذا التمييز بلا أدنى كياسة، لكن في الوقت الذي تنمو فيه الصورة بسرعة جنونية، يجب الوعي أن ثمة وسيلتين لمعرفة وفهم العالم، ربما مثل أسلوبين وجوديين. اللغة المكتوبة تؤدي أكثر إلى الكشف والحلم والطوباوية.

الكتب بمثابة لسان حال. إنها تسمح بولوج عوالم ذهنية وتخدم بيداغوجيا التقمص. لنضرب لذلك مثلا: قريب جريح، أثرت فيه صدمة، يعيق مدّ العواطف الكاسح قدرته على سرد حكايته.

■ يقول بعض الفلاسفة إن القراءة وهي تعرض علينا مجموعة كاملة من الأمزجة الإنسانية، تمارس قدرتنا على التقمص. ما رأيك؟
□ الكتب بمثابة لسان حال. إنها تسمح بولوج عوالم ذهنية وتخدم بيداغوجيا التقمص. لنضرب لذلك مثلا: قريب جريح، أثرت فيه صدمة، يعيق مدّ العواطف الكاسح قدرته على سرد حكايته. يمكن أن نقول للطفل:»إقرأ هذا الكتاب، وسوف تدرك ما لا يجرؤ والدك على إخبارك به». لكن للتقمص أوجه مَرَضية، إنه لا يجعل المرء أكثر إنسانية بالضرورة. حينما كنت صغيرا، كنت مسحورا بيومية الرحلات، التي كانت تمجد الاستعمار. كانت تلك القراءة تشع بريقا في رأسي. كان يأخذني الحماس إزاء مآثر المستكشفين الأمجاد. إن تقمصي لم يبلغ حد أن يبين حقيقة أننا كنا نبيد حضارات أخرى بفرض حضارتنا. نعرف اليوم أن التقمص هو سيرورة نمو متصل، قد تتوقف أثناء المسير. وأنا أصل سن الشيخوخة، انتهى بي المطاف إلى التساؤل عمَّا إذا كان من المسموح به شرعا فرض تصورنا للحياة الاجتماعية، بتحقير طبائع وعادات الآخرين ونهب ممتلكاتهم. يومية الرحلات هي المثال لقراءة تثير تقمصا جزئيا. لا يمدنا إلا برؤية للعالم، في الغالب مُلَطَّفة. يسعى المؤلفون، وهم يخاطبون الصديق المثالي، إلى خلق جماعة من الناس يفكرون مثلهم. نجد هذا النوع من المحكيات البطولية التي تدعم التماهي والإعجاب، في الأنظمة الشمولية.
■ لقد اشتغلت كثيرا على مفهوم المرونة النفسية، هل الكتاب وسيلة ممكنة لذلك؟
□ أجل، بوضوح. يفلح كتاب في أن يقول بتأنق وبطريقة مقنعة ما لا أدري أو لا أجسر على قوله. إنه ممثل للذات، مندوب نرجسي. إنه سندي، لكنه يمثل أيضا صلة بالغير. عندما كنت طفلا، كنت أظن أن كوني يهوديا، هو أن يكون محكوما عليّ بالموت. لم تكن فكرة عبثية: كل من حولي اختفوا، وأدركت جيدا أن هناك من يريد قتلي. كنت أسمع أنه من باب الطهارة العرقية أن تتم إبادة «الحشرة» اليهودية التي تنشر الطاعون في العالم بأكمله. وأنه إذا تم القضاء على اليهود فإن العالم سوف يشهد سعادة تدوم ألف عام. كان ذلك هو الكلام الوحيد الذي عرفته؛ وبدا لي إذن مقبولا شرعيا. حينما صدر كتاب «آخر الصالحين بين الأمم» (1959) بقلم أندري شوارتز بارت، وكتاب «بيع تذاكر اللوفر» لروجي بوسينو (1960) أو «كيس الكريات الزجاجية» (1973) لجوزيف جوفو، شعرت بارتياح عظيم. بفضل هذه الكتب، أصبح اليهود قوما يثيرون الأحاسيس والعواطف والفرح، أو لا يفعلون. كانوا عائلات، يؤلفون عالما إنسانيا كنت أجهله حتى تلك اللحظة. لقد كان لهذه الكتب أثر طيب عليّ بحق. كنت أحس كثيرا بالصياغة اللغوية، إن ما يداوينا، ليس هو أن نقرأ أو نقول كلمات، بل إن صياغة الشكل اللفظي هي ما يقوم بذلك. حينما يكون الكلام مصاغا، فإنه يمنح شكلا آخر للتجربة المعيشة.
■ وهل تقوم الكتابة بالوظيفة نفسها؟
□ أجل. فضلا عن ذلك، كنت أقرأ أيضا كي أتعلم الكتابة بصورة أفضل. كنت أريد التعبير عن نفسي بطريقة مضبوطة، بدون تلعثم، وسواء تعلق الأمر بنص متخيل أو بدراسة، بقراءة أو بكتابة، فإن العالم على الورق هو عالم الإنشاءات، إنه إبداع لفظي. فيه تتحول جراحنا بفضل عمل الكلمات ونية صنع جملة نتقاسمها مع الغير. هذا ما يكون له أثر طيب على النفس. أمام نص جميل، أشعر بلذة مادية، أحدث نفسي قائلا: «يا له من قول حسن، كم إنني أحب عالم الجمال والشجاعة والدقة والسخاء هذا، هذا العالم الذي تم إنشاؤه على الورق، هذا هو العالم الحقيقي، هذا ما يستحق المرء أن يعيش فيه». بالمعنى الحقيقي: يستحق عناء القراءة أو الكتابة، لأننا بعد ذلك نشعر بأننا على أحسن ما نكون.
■ هناك مكتبة داخلية تسكننا جميعا، فيها بعض النفائس التي تُحدثنا وتتحدث عنا، أكثر من غيرها. ما هي الكتب التي كان لها قيمة في حياتك؟
□ «كيس الكريات الزجاجية» الذي كان دواء لمصيبة كوني نشأتُ يهوديا. «أوليفر تويست» ، يتيم كما أنا يتيم. «بدون عائلة» كان مهما جدا، إذ كان ريمي لسان حالي وحامل أحلامي في الوقت نفسه. رغم الهَجر والعزلة وكل المصائب التي ألمَّت به كان يجد دوما الوسيلة ليُحول شقاءه شعرا، بإنشائه مسرحيات بكلاب وقطط وقردة. كنت أقرأ مغامراته بانبهار. كما عشت فترة أحببت فيها موباسان كثيرا. كان يُحسن سرد العالم الكئيب الذي كنت أعيش فيه، مع إشارته لي بإمكان جعله يسير قدما. في قصصه القصيرة بعدٌ طبّي تقريبا، كنتُ أشعر به أصلا. وباتباع سيميولوجيا اجتماعية، فإن موباسان كان يعلّمني أن بملاحظة الأعراض نستطيع التصدي لها وجعلها تندثر. هناك الكثير من الكتب التي يمكن ذكرها، التي لكل واحد منها دوره في عالمي الذهني. لكن الكتب التي ذكرت تتربع بكل تأكيد على عرش مكتبتي الداخلية.

المصدر: Sciences Humaines, n°321 janvier 2020

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!