«الرقابة المصرية»… حالة سيئة السمعة دائماً
[wpcc-script type=”75ddda473ce3ad12ee76664c-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي: لم تكن الرقابة في العالم العربي ومصر خاصة، سوى حالة موصومة دوماً بسوء السُمعة، بداية من تحالفها مع النظام السياسي الحاكم، ووصولاً إلى الادعاء الواهي بحماية الأخلاق والآداب العامة، وهو وصف قانوني لا محل له من الإعراب على أرض الواقع، ويحمل أوجه من التفسيرات لا تحصى، بحيث تستغله السُلطة وفق هواها في كل عصر، عبر مُخلصِيها من الموظفين والتابعين لهذا الهوى.
إلا أن الأمر الآن- وهو ليس بجديدـ يكشف عن مدى القصور العقلي للسادة الرقباء، في ظِل ثورة شعبية قامت- بغض النظر عن النتائج- وفي ظِل ثورة تكنولوجية فاقت توقعات عقولهم، بالقدرة على منع كتاب أو عمل فني، أو حتى رأي رجل الشارع. ومن خلال استعراض آراء بعض من المثقين والفنانين المصريين، نحاول استبيان الحالة الهزلية التي تعيشها مصر الآن.
رقابة لها ماض
بداية يصف المخرج والناقد السينمائي، وأستاذ السيناريو في المعهد العالي للسينما،»محمد كامل القليوبي»، الرقابة المصرية بأنها رقابة لها ماض حسب المفهوم الشائع في أفلامها في وصف المرأة المنحرفة، فلم يكن الهدف منها ومنذ بدايتها إلا قمع الشعب، وعندما صدرت «لائحة التياترات (المسارح)» في 12 تموز/ يوليو عام 1911، كان الهدف منها أساساً منع المسرحيات الوطنية التي بدأت تنتشر وقتها لمناهضة الاحتلال البريطانى لمصر، وهكذا فان هذه الرقابة التي ظهرت أساساً كجهاز لقمع الحركة الوطنية في مصر، وبهدف منع أي هجوم على الاحتلال البريطاني، تحولت إلى جهاز مستقر وثابت في منعه لأي أفكار متقدمة، وظل هذا الجهاز اللقيط ينمو ويستفحل وتزداد سلطاته حتى أصبح مُتحكماً تماماً في الفنون السمعية والبصرية، ويترصد أي آراء أو أفكار، أو حتى انتقادات مخالفة للنظام الحاكم أياً كان، وسواء كان احتلالاً بريطانيا أو مصريا مُتمثلا في سلطات جائرة عديدة فرضت بشكل أو بآخر على الشعب المصري.
حجة الأخلاق والقيم الدينية
ويستطرد «القليوبي» مُستعرضاً مواقف الرقابة وتاريخها سيء السُمعة .. ففي عام 1955 صدر قانون لتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحرى والأغانى والمسرحيات والمونولوجات والأسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتى، وهو القانون الذي مازال ساريا حتى الآن، إضافة إلى القرار الوزاري رقم 220 لعام 1976، الذي أصدره وقتها وزير الثقافة (جمال العطيفي)، والذي يزيد فيه من تشديد قبضة الرقابة على المصنفات الفنية بكل أشكالها، وكاتجاه من الدولة وقتها بتملق جماعات الإسلام السياسي التي أعطاها الرئيس الأسبق أنور السادات فرصة الظهور والنمو حتى تم اغتياله على يديها، غالى (العطيفى) في التشدد على ما تصوره أموراً وعظية إرشادية دينية، كفيلة إذا ما جرى تطبيقها بمنع ظهور أي فيلم، وأضاف إلى منعه إظهار صورة الرسول (ص)، منع إظهار صور الخلفاء الراشدين وأهل البيت، ومنع صور العشرة المبشرين بالجنة أو حتى سماع أصواتهم، وكذلك إظهار صورة السيد المسيح أو صور الأنبياء عموماً.
سياسات العبث
يرى الكاتب والناقد الفني «سمير غريب» أنه على الجميع أيا كانت أوضاعهم أن يعلموا أن من العبث محاولة منع أى فكر أو فن سواء رضينا عنه أو سخطنا عليه. هذا المنع يشبه اليوم حجب الشمس أو القمر أو منع الظواهر الطبيعية من الحدوث. الفضاء مفتوح بوسائل التكنولوجيا، والأطفال معهم هذه الوسائل حتى في أصغر قرية. التربية والتعليم والإعلام السليم الواعى المخلص الوطني بذكاء هو الأساس وليس السماح أو المنع. وليعلم من يمنع أنه بمنعه يخدم ما يمنع وليس العكس. لأن ما يمنعه سيزيد المنع انتشاره. والأمثلة القريبة عديدة. قليل من الذكاء يفيد الوطن.
الفكر هو عدو الدولة الأول
ويُشير المخرج السينمائي «أحمد ماهر» إلى أن الوضع الحالي يعيش مُفارقة مُزمنة تبدو في أننا لسنا في لحظة مناهضة للرجعية والتخلف بالعكس، فتصور أن الدولة أكثر علمانية وليبرالية، بزوال الأخوان، ما هو إلا مجرد خدعة، لأن أسس إدارة الدولة ليست مبنية على أفكار ليبرالية، بل محافظة ومتشددة ورجعية، لكنها وفق مقاييس ومعايير أخرى غير دولة الإخوان. وهي ممارسات مقصودة حتى يتعوّد الفرد في المجتمع السير على الخطى المرسومة له، والدولة بذلك تعمل على تشكيل الفرد المطيع، وخلق نموذج للطاعة يجب أن يتمثله الجميع، وهي بذلك تعود للدور البابوي، وهذا أساس الفاشيست. والدولة التي تتحرك في إطار هذا المنهج- تشكيل المواطن على مقياس معين- وبالتالي تهميش دور الفرد في صالح ماكينة كبرى يُطلق عليها نظام الدولة، الذي يرى في نفسه أنه أقوى من الجميع. ومن أهم أساليب هذا النظام هو تحديد الفكر، فالفكر هو عدوه الأول، وليس لديه سوى فكر أوحد فقط هو الفكر الحليف لهذا النظام. ولابد من أن ينتهجه الجميع. فاستبدال مبارك بمرسي، ثم السيسي لم يغير من المنظومة، والدليل يأتينا من تساؤل آخر .. هل تم إنقاذ هوية الدولة الآن؟!
رقابة الأمر بالمعروف
من ناحية أخرى يرصد «محمد كامل القليوبي» ألعاب الرقابة الخائبة بقوله: إن الأمور لا تتغير في مصر، وقد تقرر إعادة لجنة لا يوجد أساس قانوني لها وتم افتعالها كى تكون لجنة وسيطة بين الرقابة على المصنفات الفنية ولجنة التظلمات، وهي لجنة الرقابة العليا، ولكن مع إعادة تسميتها بلجنة «حماية حرية الابداع»، وهو عنوان براق. وهكذا عدنا إلى التسميات الجوفاء بدلاً من النظر إلى مضمونها، وتبدو هذه المحاولة اليائسة لزيادة قبضة الرقابة على الفكر والابداع في مصر، كبديل للنوايا التي تم إعلانها من قبل بإلغاء الرقابة واستبدالها بالتصنيف العمرى كما هو الحال في سائر أنحاء المعمورة باستثناء عدد ضئيل من البلدان الخاضعة لانظمة ديكتاتورية فاشية، حيث اعتبر العالم الحر المتقدم والذي يرفض البعض أن نكون جزءا منه، أن مجرد وجود رقابة تحدد لمواطنيه ما يقرأون أو ما يشاهدونه أو ما يسمعونه هو عار ما بعده عار.
وقد تم تقريباً التراجع عن قرار إقامة ما يسمى بـ «لجنة الدفاع عن حرية التعبير» كلجنة رقابية مستحدثة نتيجة لاحتجاج السينمائيين المصريين ونقابتهم على هذا العبث الذي يجرى. لكن مشكلة الرقابة المهنية للشعب المصرى الذي قام بثورتين في اقل من عامين ونصف العام ما زالت قائمة، وهي بصورتها الراهنة مخالفة صريحة للدستور الذي ينص صراحة على حماية حرية التعبير.
الحجود آفة الفنان المصري
يرى الروائي وكاتب السيناريو الشاب «أشرف نصر» في رؤية ساخرة للوضع الحالي أن آفة الفنان المصري هي الجحود، فمتى يدرك عظمة ما نعيشه الآن، فبعد القتل صار يُسجن فقط، كان التكفير يحاصره والآن يُخوّن، مجرد حالات سجن أو مصادرة فردية، يجب ألا تعميه عن شمس الحرية، فلديه دستور نص على حماية الإبداع، فليصم أذنيه عن مروجي الشائعات حول ترسانة القوانين المقيدة للإبداع، وليكتب كما شاء بمسؤولية تليق بالمؤامرات الكونية ضدنا، فليدرك أن أوجاعنا كثيرة وعليه أن يسلينا ويتوقف عن فتح الجراح وتشويه سمعتنا. لماذا لا يتحدث عن الأخلاق والشعب المتدين وينسى أكاذيب التحرش أو التعذيب أو الاغتصاب والفساد والسرقة والرشوة الخ، متى يكتب عن إبهارنا للعالم؟! متى يعي حق .. نقابة أو محامي أو حتى متابع على «الفيس بوك»، أن يُجَرجَر في المحاكم ويُسجن وتقيم النيابة- وقت اللزوم سياسيا- دعوى حِسبة صغيرة (زي شكة الدبوس) والحل بسيط .. على الفنان والكاتب تجنب الجيش والشرطة والأزهر والكنيسة والقضاء والنقابات والجمعيات ورواد الفيس بوك وسكان الشارع والأسرة المصرية، وليكتب ما يحب! وأخيراً .. رب اجعلني دائما من الجاحدين وتجاوزعن التقصير، وبارك في مارد الإنترنت الذي حرم الملائكيين من متعة تأجيل وصول الفكرة، التي تصل دائما.
أزمة المثقفين ومصالح النخبة
يؤكد «ماهر» على أن ما يحدث وضع المثقفين في موقف لا يُحسدون عليه، فما يحدث من منع ومظاهرات هو رد مناسب في وجوههم، الذين ظنوا أن التخلص من الإخوان هو تخلص من القمع، النخب مؤيدة لمصالح نوعية، حتى لو ادّعوا الثورية، فالثورة (فكرة)، والمشارك في ثورة كانون الثاني/ يناير والموافق على ما يحدث الآن من حالة القمع، فهو يحمي مصالحه الشخصية، والتي تبدأ من عمل البيزنس، أو ارتداء المايوه، أو التدخين في رمضان، أو شرب كأس من الويسكي. فما رد فعلهم الآن؟ أعتقد أنه سيكون مجرد تبريرات ليس أكثر. فإدارة البلد تتعامل بمبدأ طرق المعدن وهو ساخن، وطالما توجد استجابة، فهي تحقق أكبر قدر من المكتسبات، فما قيمة وجود المكتبات ودور السينما والمسرح، وأن يتم في الوقت نفسه تحديد النوع الذي يُعرض فيها؟! واقعة منع مؤلف أو أكثر لـ «نصر أبو زيد» على سبيل المثال، لم تحدث إلا في عهد مبارك والآن. ولن يثور الشارع لمنع فيلم أو كتاب، فالأغلبية من الناس لن تثور إلا في حالة المساس بآدميتها وأقواتها، فنحن لسنا في السويد أو فرنسا، حتى نتحرك إلى الشارع في سبيل حرية الأقليات. والمنع في كل الأحوال ما هو إلا أعراض هزيمة آتية لا محالة. والمنفذون يتحركون دون أن يُطلب منهم ذلك، فنحن في دولة الإشارات منذ تموز/ يوليو 1952، لا يوجد مسؤول يعطي أوامره لمرؤوسه، هناك حالة من التطوع لعله يرضي السلطة، لأنهم نظروا إلى تجارب مَن سبقوهم، عصر مبارك وأسلافه من العسكريين حوّلوا الصحافي والمثقف إلى مجرد موظف.
فخ التناقض
ويُشير «القليوبي» إلى واقعة عرض فيلم (آلام المسيح)، الذي قام ( جابر عصفور) بتوقيع التصريح الرقابي بعرضه عرضاً عاماً، عندما كان رئيساً للمجلس الأعلى للثقافة، ولكن ما الموقف عند التعرّض لمنع فيلم (نوح) من العرض العام، وقد أصبح جابر عصفور وزيراً للثقافة، ماذا حدث؟ ولماذا لم يُعرض الفيلم رغم موافقة رئيس الرقابة السابق على عرضه؟ خاصة بعد تصريحات (عصفور) أنه ليس من حق مؤسسة الأزهر التدخل لمنع عرض أى فيلم، وبعدما بدا تورطاً بالسماح بعرض الفيلم الذي يعرض في جميع أنحاء العالم بما في ذلك عدد من الدول العربية والاسلامية، لجأت الدولة الى حيلة قديمة مكشوفة سبق استخدامها من قبل، وهي .. أن تطلب من الشركة التي تقوم بتوزيع الفيلم أن لا تحضر الفيلم من الأساس، وإلا سيتم رفضه!
محنة حقيقية
ويضيف الناقد وكاتب السيناريو ورئيس المركز القومي للسينما، التابع لوزارة الثقافة «وليد سيف»: أننا نعيش في محنه حقيقية، بين إيماننا بضرورة الحرية المطلقة بعد ثورة شعبية شارك فيها المجتمع بمختلف فئاته، وبين إدراكنا لتدنى مستوى الوعى الثقافي لدى قطاعات عريضة من جماهيرنا، ولكننا في ظل ثورة الإتصالات وعالم القنوات المفتوحة ليس أمامنا أى سبيل آخر سوى الإستعداد من الآن لتطبيق نظام التصنيف العمرى للأفلام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وللحاق بركب العالم من حولنا مع الحرص على توفير آليات لتطبيقه بصرامة. والرأي نفسه يراه «د. القليوبي» مؤكداً أن على وزارة الثقافة الإعلان عن جدول وخطة زمنية محددة لالغاء الرقابة واستبدالها بتصنيف عمرى كما هو الحال في عالم تحول إلى قرية كونية كبيرة، ولم تعد أي رقابة من أى نوع وبفضل وسائل الاتصال الحديثة قادرة على منع أى شىء.
لا مفر من التفكير العلمي
وبدوره يرى «سمير غريب» أن الأمر مختلف تماماً .. فالزمن تغير كثيراً منذ عام 1952 وعلى الجميع إدراك هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق. وعلى جميع المصريين حكاماً ومحكومين أن يعملوا على تقدم مصر. أى تقدم ليس ممكنا في أى مكان من العالم بدون التفكير العلمى. هذه حقيقة أخرى. سياسة المنع لا علاقة لها بالتفكير العلمى. فإذا كانوا يريدون تقدم مصر فليفهموا هذه الحقائق!
مظاهر النهاية
ونختتم برؤية المخرج «أحمد ماهر» الذي يرى أن الخلطة التي أمامنا الآن عبارة عن تركيبة باكستانية، خلطة من الجنرالات مُطعمة بالدين، المتمثل في السلفيين. ولا أحد يستطيع التكهن بما سيحدث، لكن يبدو أن هذه المُمَارسات، في الواقع، ما هي إلا مُمَارسات نهاية حُكم، وليست بداياته.
محمد عبد الرحيم