العازف الكرواتي هاوزر: سحر التشيللو وقمة الأداء الموسيقي
[wpcc-script type=”7bacf87de8a8d613298e1f8d-text/javascript”]

في ألبومه الجديد «كلاسيك 2020» يثبت عازف التشيللو الكرواتي هاوزر، أنه يستحق كل هذا الاهتمام العالمي، والنجومية الساحقة والشهرة العارمة، وأنه لم يكن يوماً مجرد ظاهرة أو صيحة من صيحات الموضة في عالم الموسيقى، فهو ساحر التشيللو بحق، يستطيع أن يجعل منه منافساً قوياً لمختلف أنواع الآلات الموسيقية، والأصوات البشرية أيضاً، وكأن التشيللو عندما يمسك به هاوزر، يمكنه أن يتحول إلى بيانو أو أوبوا أو هاربسيكورد، وأن يعبر جيداً عن كافة المشاعر في القطع الموسيقية التي كتبت لهذه الآلات، وأن يؤدي موسيقياً أغنيات مختلفة لأعظم تينور أوبرالي، وفي حفلاته، وعلى العكس من المعتاد، يأتي هاوزر بالتشيللو من مكانه الأساسي على يمين المسرح إلى منتصفه، ويجعله يتصدر في المقدمة، ويجلس ليعزف عليه بالقوس وبأنامله، التي تتحرك صعوداً وهبوطاً على أوتاره، بدون كراسة موسيقية يطالعها، ومايسترو يقود أداءه ويعطيه إرشادات استعمال القوس، والأوبوا التي يُضبط عليها التشيللو مثل بقية الوتريات في الأوركسترا، ويكون التشيللو الذي لا يعرف الانفراد، وحيداً بشكل يمكنه من الانطلاق بحرية نحو قمة الأداء الموسيقي، والتعبير عن كل ما تحتويه المعزوفة من قوة وضعف، بل إنه يتمكن بصوته الرخيم الغليظ من أداء الأنغام الحادة السريعة، وأداء الميلودي والكونتر- ميلودي الذي لا يكون ضد اللحن الأصلي، لكنه يعضده ويبرز جمالياته. وقد بدأت شهرة هاوزر منذ أكثر من عشر سنوات، مع صديق طفولته لوكا، من خلال ثنائي شهير، وأصدرا بعض الألبومات معاً، وأقاما العديد من الحفلات والجولات الموسيقية حول العالم، ولا يقل لوكا مهارة عن هاوزر، لكن ربما ما يميز هاوزر هو الجنون الفني الذي لا حدود له، وتعود حكايته مع التشيللو إلى طفولته المبكرة، كما يروي دائماً في حواراته التلفزيونية، ويقول إنه استمع إلى صوت التشيللو لأول مرة، من خلال الراديو، الذي كان يبث إحدى القطع الموسيقية الكلاسيكية، وسحره صوت التشيللو تحديداً من بين بقية الآلات الموسيقية التي كانت تقوم بالعزف، لكنه لم يكن يعلم شيئاً عن هذا الصوت أو الآلة التي تصدره، كل ما أدركه هو أنه أحبها قبل أن يراها أو يعرف اسمها، فقام والده بتوجيهه نحو دراستها، وكانت النشأة والتكوين الكلاسيكي البحت، ثم الانفتاح على أنواع موسيقية أخرى في فترة المراهقة، كالبوب والروك والهيب هوب، وجعل التشيللو ينفتح على هذه الأنواع أيضاً، فهو لم يفارقه منذ طفولته، ولم يفتر الحب مع الزمن، بل ازداد حرارة وتأججاً، وعندما نشاهد حفلاته، أو معزوفاته المصورة، نرى كم أنه لا يزال مفتوناً بهذه الآلة الموسيقية.
من أعمال الموسيقي الألماني هاندل أحد عظماء عصر الباروك، اختار هاوزر أغنية Lascia ch’io pianga وهي واحدة من الآريات الكثيرة التي قدمها في أوبراته الجادة الرصينة، المستمدة من الملاحم المليئة بالأبطال التراجيديين
أما الاستماع إلى هذا الألبوم، فإنه يمنحنا فرصة التقلب في نعيم موسيقى تشايكوفسكي وباخ وهاندل وشوبان وبوتشيني وموتسارت، بعزف ممتاز من هاوزر، وتنفيذ رائع من أوركسترا لندن السيمفوني، التي قد تكون الأفضل في العالم حالياً، حيث يذهب إليها الكثير من الموسيقيين ونجوم الأوبرا، من أجل تنفيذ ألبوماتهم الكلاسيكية، وقد ساعدت هاوزر في عزف هذه القطع الموسيقية بشكل غير تقليدي، مخالف لما كتبت عليه في الأصل، وتراجعت كافة الآلات الموسيقية، وتم تسخيرها لإظهار صوت التشيللو وإمكانياته في عزف قطع موسيقية لم تكتب للتشيللو في الأساس، وما يفعله هاوزر هو تفسير فني جديد للقطع الموسيقية، وما اختاره من مؤلفات خلابة ومعقدة، تتطلب الكثير من تقنيات العزف الصعبة، وخلق الأثر التعبيري والصور الصوتية، فإذا كان لا وجود للكلمات في هذا الألبوم، فهناك الكثير من الأفكار والدراما، وقد يصل الأمر إلى وجود حبكة موسيقية أو عقدة تنتظر الحل.
ومن أعمال الموسيقي الألماني هاندل أحد عظماء عصر الباروك، اختار هاوزر أغنية Lascia ch’io pianga وهي واحدة من الآريات الكثيرة التي قدمها في أوبراته الجادة الرصينة، المستمدة من الملاحم المليئة بالأبطال التراجيديين، هذه الآريا نعرفها بصوت الكونتر- تينور فرانكو فاجيولي الشاب الأرجنتيني المدهش، الذي أصدر ألبوم آريات هاندل عام 2018 وضمنه مجموعة رائعة من مؤلفات ذلك الباروكي العظيم، وقد استطاع هاوزر أن يعبر بواسطة التشيللو عن السمو الموسيقي الفائق، والحزن في هذه الآريا، التي تقول كلماتها «دعني أبكي على قدري وأتنهد شوقاً إلى الحرية» ويؤدي هاوزر الجمل اللحنية الطويلة والزخرفات الدقيقة والحليات الرفيعة بمهارة، وفي الآريا الأصلية تعزف الموسيقى أساساً بتصدر الهاربسيكورد طوال اللحن، تليه مجموعة الفيولينة ثم التشيللو، ولدى هاوزر يحدث العكس، حيث يتصدر التشيللو ثم مجموعة الفيولينة، ويكون صوت الهاربسيكورد بعيداً في الخلفية، ومن عصر الباروك أيضاً نستمع إلى باخ في قطعة Air on the G String التي تعتمد أساساً في عزفها على الهاربسيكورد والعود الباروكي Theorbo الذي أخذته أوروبا عن العرب في إسبانيا، وهو يشبه العود العربي بصوته الشجي وشكله، إلا أن ذراعه طويلة بشكل كبير، وبالتالي فإن أوتاره أطول بكثير من أوتار العود العربي الأصلي، وهو من أهم الآلات الموسيقية التي تميز عصر الباروك، ويكتمل اللحن بمشاركة الفيولينة الأولى والثانية، والفيولا، ثم التشيللو والكونتراباص الذي لا نكاد نشعر بوجوده، وقد غير هاوزر كل هذا النظام، وجعل التشيللو يتقدم كل هذه الآلات، وبدت القطعة على درجة كبيرة من الصفاء بصوت التشيللو وارتعاشات الأنغام على أوتاره.
ومن مؤلفات تشايكوفسكي نستمع إلى الثيمة الرئيسية من باليه بحيرة البجع، التي تعتمد على الأوبوا كثيراً، لنكتشف كم هي رائعة بصوت التشيللو، وقام هاوزر بتصوير هذه المعزوفة، حيث تدور حوله مجموعة من راقصات الباليه، ثم تقترب منه الراقصة الأساسية، فيترك التشيللو ويراقصها قليلاً، ثم يعود للعزف مرة أخرى، ومن باليه كسارة البندق اختار هاوزر متتالية pas de deux التي هي من أجمل وأرق المعزوفات للسماع، ومن أروع الرقصات الثنائية بين رجل وامرأة في الباليه الكلاسيكي، وفي المعزوفة الأصلية يأتي التشيللو وبقية الوتريات في الخلفية، بينما يتصدر الفلوت والأوبوا والكلارينيت، وفي هذه القطعة تحديداً يظهر هاوزر مدى قدرة التشيللو على فعل ما تفعله كل هذه الآلات، والتمكن من نقل هذا الكم الهائل من المشاعر، والجيشان العاطفي الرهيب في موسيقى تشايكوفسكي، هذا الفنان صاحب الوجدان الرقيق الضعيف، والإنسان الذي انكسر وتهشم لأنه من زجاج، كما كان يقول عن نفسه.
٭ كاتبة مصرية
