محمد الرصافي المقداد
يبدو أن دول الغرب لا تزال ترى حكوماتها صاحبة سيادة على بلدانها المستعمًرة، خلال القرنين الماضيين، ومن حقّها أن تعبّر بما تشاء عن آرائها تجاه قضاياها الداخلية، وتتدخّل فيها بطرق غير ودّية أو سافرة في كثير من الأحيان، هذا المنطق الإستكباري المتعالي على الدول المُسْتَعْمَرَةِ، لم ينقطع منذ استقلالها الصّوُريّ إلى اليوم، عقِيدة توارثها الطرفان المستعمِرُ والمستعمَرُ، وهي السّائدة على ساحة السياسة العالمية ولم تتغيّر في شيء، كأنّما قطر تلك البلدان المستضعُفَة أن تكون تحت وصاية فرنسية أو انكليزية إلى الأبد.
لم يكن الرئيس الفرنسي ليحيد عن عقلية من سبقه من زعماء فرنسا، فتقاليد بلده الإستعمارية هي نفسها لم تتغير في شيء، ترى من كان تحت هيمنتها من البلدان الأفريقية، مجرّد توابع لها، من حقّها الإستعماري أن تتحكم فيها كما تشاء، وماكرون سبق أن عبّر عن عقْليّة غارقة في مستنقعها الإستكباري الآسن، عن أنفتِه من الإعتراف بالجرائم التي ارتكبتها جيوشهم في الجزائر، والإعتذار الرّسميّ منها، وما سيترتّب عن ذلك من جبر أضرار جسيمة لحقت بها.
محاولة الدبلوماسية الجزائرية الحصول على اعتراف ضمني بأخطاء فرنسا الجسيمة بحق الشعب الجزائري والأرض الجزائرية، لم تفضي إلى نتيجة لحد الآن، وإن كانت أحرجت فرنسا ودفعت بمن يمثّلها للتفكير في ردّ قد يبعد عنها اعادة الكرّة لاستحقاق جزائري لا غبار عليه، ويبدو أن تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة تصبّ في هذا الإطار من ناحية وتدفع بالعلاقات الفرنسية الجزائرية إلى أزمة ستؤثّر سلبا على العلاقات القائمة بين البلدين.
تصريحات ماركون نقلتها صحيفة لوموند الفرنسية، وهي التصريحات، لم تتوقف عند حد انتقاد النظام السياسي الجزائري، وإنما امتدت لتطال كيان الأمة الجزائرية وتاريخها، بكل ما يحويه من جدل حول الحقبة الإستعمارية، والتي خضعت فيها للإستعمار الفرنسي. وكان الرئيس الفرنسي، قد شكك في وجود أمة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي للبلاد، عام 1830 متسائلا: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟، وقال ماكرون خلال لقاء له مع مجموعة من الطلبة الجزائريين، ومزدوجي الجنسية في باريس، إن الرئيس الجزائري تبون رهين لنظام متحجر، مضيفا أنه “يجري حوارا جيدا مع الرئيس الجزائري” و”أرى أنه عالق في نظام شديد التصلب”.(1)
تساؤل فرنسي خبيث استفزّ فيها مشاعر شعب، بعرقه العربي الأمازيغي، ينتمي إلى أمّة إسلامية، عريق بعراقة عرْقِه ودينه، قبل فرنسا وهمجيّة من سكنها، من قبائل متناحرة كانت معروفة بالقذارة والتفسّخ الأخلاقي، وكان على ماكرون الذي يبدو انه أصبح يتجاهل تاريخ بلاده القديم أن يخجل منه قبل أي شيء، زيادة على ما يتحفنا به رجال حقوقيون بينهم رفضوا اخفاء حقائق صادمة عن جرائم فظيعة ارتكبها رجال كنيسة فرنسيين.
فقد قال رئيس لجنة مستقلة، تحقق في انتهاكات جنسية بالكنيسة الكاثوليكية في فرنسا إن 216 ألف طفل تعرضوا لاعتداءات جنسية من قبل القساوسة ورجال الدين منذ عام 1950، وأضاف جان مارك سوفيه إن العدد قد يرتفع إلى 330 ألفاً، إذا ما أدرجت الإساءات من قبل أعضاء الكنيسة والعاملين فيها من خارج الإكليروس. وأوضح في تصريح سابق لوكالة فرانس برس للأنباء، أن الآلاف ممن عملوا بالمؤسسة الدينية اعتدوا على أطفال.
وقال إن اللجنة اكتشفت أدلة على أن ما بين 2900 و3200 قسيس أو عضو في الكنيسة اقترفوا اعتداءات جنسية، من إجمالي 115 ألف كاهن ورجل دين، “على أقل تقدير”.(2)
فرنسا الاستعمارية برموزها السياسية، لا تستحي من هكذا جرائم وانتهاكات بحق الإنسانية، كأنّ هذه التّجاوزات لا تعنيها، ولا تعبّر عن وجهها المزيّف بأنماط من الدعايات الكاذبة، والعناوين البراقة التي لا تعني واقعا داخليا متردّيا إلى حضيض الحيوانية البشرية، فباريس على سبيل المثال عُرفت باسم مدينة النّور la ville lumiere (3) قد جمعت موبقات العالم، على أساس أن ذلك يمثّل حرّية شخصية يجب أن تُحمى قانونا.
يشعر كل من يمتلك إنسانية نظيفة، خالية من شوائب الشّذوذ التي اتّسمت بها مدنية الغرب القديمة والمعاصرة، بالقرفِ والتقزّز من سلوكيات شعوبه المتناحرة قديما، والموسومة بكل المساوئ الشّيطانية حديثا، فلا دينها المسيحي على التحريف الذي طرأ عليه أمكنه أن يغيّر أنفسا ترسّخت فيها تلك العادات السيئة، ولا تمدّنها وتقدّمها العلمي أتاح لها أن تنزع منها عناصر فساد متوارث، بلغ مبلغه من العنصرية المريضة، ومن كانوا على هذه الشاكلة من الإنحطاط الأخلاقي، ومعاداة الأحكام الإلهية، يستحيل علاجه.
فرنسا الاستعمارية استطاعت أن تستعمر شعوبا، وتبتزّها في مقدّراتها، وأمكن لها بعد ذلك، أن تجمعها في منتدى سياسي فرنكوفوني، مستمرّ في اتّباع سياساتها، خاضع لإرادتها عبر وكلائه من قادة تلك البلدان، لكنها بأخطائها الفادحة والجارحة لمشاعر تلك الشعوب، ستكون سببا رئيسيا في انتقاض ما بنته من آمال على مواصلة هيمنتها وابتزازها في ذلك الإطار الذي ما كان له أن يكون من أساسه، لولا عملاء فرنسا وأيتامها، وها قد جاء زمن تصحيح المسار وانهاء منتدى لا يخدم مصالح الشعوب الافريقية بالمرّة، وعلى الشعوب الإفريقية الناطقة بالفرنسية، أن تغير حتى اللغة التي هي موروث استعماري، بلغة أكثر حداثة وعلما من اللغة الفرنسية، التي لا تذكّرنا إلا بأسوا حقبة استعمارية عرفتها افريقيا.
المصادر
1 – لماذا يشكك الرئيس الفرنسي الان في وجود أمّة جزائرية قبل الإستعمار الفرنسي للجزائر؟ https://www.bbc.com/arabic/interactivity-58781587/
2 – قساوسة فرنسيون اعتدوا جنسياً على 216 ألف ضحية منذ عام 1950
https://www.bbc.com/arabic/world-58778901
3 – باريس https://ar.wikipedia.org/wiki
Source: Raialyoum.com