وبدأت حكاية الفضيحة، التي يصنفها الخبراء في خانة “العملية الإجرامية العالمية” عندما كشفت تقارير إعلامية جزائرية عن وصول شحنة من القمح يحتوي على مادة سامة كانت ستوجه إلى الاستهلاك البشري.

وقد وجهت التحقيقات الأولية أصعب الاتهام إلى الشركة المكلفة بالمراقبة والمعاينة على مستوى الدولة المصدرة، وهي شركة فرنسية متعاقدة مع الديوان الجزائري المهني للحبوب منذ سنوات، وقد صرحت تلك الشركة بتصدير حمولة مقدرة بـ31 ألف طن من القمح من ليتونيا إلى الجزائر رغم أنه يحتوى على مواد سامة.

مسلسل فضائح استيراد القمح

وعلى خلفية هذه الفضيحة قام وزير الفلاحة والتنمية الريفية، عبد الحميد حمداني، بإنهاء مهام عبد الرحمن بوشهدة، تنفيذا لتعليمات الوزير الأول عبد العزيز جراد، بعدما أثبتت المراقبة العينية أن الأمر يتعلق بجريمة كانت ستتسبب في قتل العديد من أرواح الجزائريين.

وقد فتحت هذه القضية أبواب النقاش على سياسية البلاد الاقتصادية بشكل عام وكيفية تسيير سوق الاستيراد والتصدير، كما أكد رئيس جمعية حماية المستهلك بالجزائر الخبير الاقتصادي مصطفى زبدي لـ”سكاي نيوز عربية” أن هذه الصفة ما هي إلا جزء من مسلسل للصفقات المشبوهة التي عان منها الاقتصاد الوطني وأبرزها مسألة تضخيم الفواتير واستيراد المواد التالفة.

وقال زيدي: “فتح تحقيق حول صفقة القمح الليتواني بأمر من أعلى مسؤول في الدولة، خطوة إيجابية تعكس تحسن الجهاز الرقابي وفعاليته وستنعكس بشكل إيجابي على صورة الجزائر في الخارج في المستقبل”.

وتعتبر الجزائر من أكبر مستوردي القمح في العالم، حيث تستورد معظم حاجياتها من هذه المادة من فرنسا، كما شرعت مؤخرا في عمليات استيراد محدودة من روسيا.

وتأتي هذه الخطوة الرقابية لإضفاء مزيد من الشفافية في تسير الاقتصاد الوطني وسط رهانات كبيرة تواجهها الموازنة المالية مع ترجع احتياطي الصرف من العملة الصعبة الذي وصل في العام الماضي إلى 60 مليار دولار فقط.

ولا تعد هذه الفضيحة الأولى من نوعها، ففي عام 2011 عرف ميناء الجزائر فضيحة مماثلة بعدما حجزت حمولة قدرها 8 آلاف طن من القمح الصلب تحمل مادة (ليرڤو) السامة.

أكثر من 50 مليون خبزة يوميا

وتسعى البلاد إلى التوجه نحو التقليل من استخدام مادة القمح اللين كغذاء أساسي للمواطن الجزائري، كما تشير التقارير إلى أن معدل استهلاك المواطن الجزائر لمادة الخبز يوميا يتجاوز الـ50 خبزة وغالبيتها مصنوعة من مادة القمح اللين.

وتشير الدراسات إلى أن المواطن الجزائر قبل الاستقلال، لم يكن يستهلك القمح اللين بالشكل الذي هو عليه اليوم، حيث تغيرت العادات الغذائية للجزائريين في السنوات الأخيرة، وأصبح القمح اللين أساسيا بعدما كان دخيلا على الأسر الجزائرية.

وتنظر جمعيات حماية المستهلك بكثير من الحذر للخبز المصنوع من مادة القمح اللين للمخاطر التي يخلفها على الجهاز الهضمي للإنسان مقارنة بالقمح الصلب، وتكمن خطورة النوع الأول في الاعتماد عليه كمادة موجه للاستهلاك المباشر وليس للزراعة من طرف المستهلك الجزائري.

وتفتح هذه القضية عدة مشاكل يعاني منها السوق الجزائري تتمحور حول مسألة سوق القمح في الجزائر في ظل احتكار الديوان الوطني للسوق.

ويلخص الخبير المالي الدولي الجزائري محمد حميدوش، المشكل في 3 نقاط: الأولى يتعلق بوضعية المطاحن في الجزائر وحرية الاستيراد، حيث تتمتع كل طاحونة ببرنامج مستقل للاستيراد موجه لصناعة الخبز محليا.

والثاني مسألة الدعم، وهنا يرى الخبير أهمية أن تتجه الجزائر نحو خيار التقليل من الدعم وخلق شبكة اجتماعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

أما الأمر الرابع وهو الأهم والذي يتعلق بضبط برنامج يرتكز على دعم المنتج الفلاحي المحلي عبر تقديم الامتيازات لمنتجي القمح الصلب في الجزائر.

حلم الاكتفاء الذاتي

وقد طفت فضيحة القمح الليتواني على السطح بعد أشهر من إعلان الجزائر الاستغناء عن استيراد القمح الصلب والإبقاء فقط على استيراد اللين، كما أعلنت رئاسة الوزراء شهر يونيو الماضي أن تلك الخطوة تأتي استجابة لحاجيات السوق الجزائرية من مادة القمح وتحقيقا للاكتفاء الذاتي من القمح الصلب بعدما وصل المنتوج البلاد من هذه المادة إلى 3. 2 مليون طون وهو رقم قياسي لم تصل إليه الجزائر من قبل.

وبحسب أرقام رسمية لوزارة الفلاحة فإن مساحة الأراضي الزراعية في الجزائر تقدر بنحو 42 مليون هكتار، ورغم شاسعة المساحة الجغرافية للجزائر وتنوع مناخها وتضاريسها إلا أن قدرة الجزائر على إنتاج القمح للين تبقى محدودة جدا مقارنة بإنتاجها للقمح الصلب.

ويطرح الخبير الاقتصادي الجزائري حميد علوان سؤالا محورا في هذا السياق وقال لـ” سكاي نيوز عربية”: “هل ستدفع هذه الفضيحة بالجزائر فعلا للتفكير نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في كل المواد وما هي البدائل المطروحة أمامها لأخلقه الممارسة الاقتصادية؟”.

ويرى علوان أن الوصول إلى الأهداف الكبرى لن يتم إلا من خلال الحد من تراكم سياسية الفساد والغش التي عششت على عقلية الإدارة لعقود من الزمن وقد أصبح بعض الموردون يتفننون في أساليب التحايل على القانون من تضخيم الفواتير إلى استيراد المواد الفاسد.