في ندوة حول «هواء المنسيين» لـ المصرية غادة نبيل: محاولات الخيال الشعري لخلق فضاءات مُتجاوزة للعالم
[wpcc-script type=”3b2639d45b56697f10bed275-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي» حاول الكثيرون الانتساب إلى قصيدة النثر، ولكل منهم مأربه، من المناداة بالحداثة، أو السعي وراء الموضة، أو الاستسهال والهرب من قيود الشعر التقليدي، كثيرون حاولوا، إلا أن قِلة هم مَن شقوا طريقهم في صعوبة، لخلق صوت شعري خاص ومتميز وسط خليط الأصوات الصاخبة. ومن هؤلاء الشاعرة «غادة نبيل» التي تحاول ولم تزل البحث عن صوتها المُغاير وصقله وخلق نغمته الخاصة. وبمناسبة صدور ديوانها «هواء المنسيين» عن دار «شرقيات»، أقام مركز (بيت الوادي للدراسات والنشر) مؤخراً ندوة لمناقشة الديوان، بحضور صاحبته، وكل من الشعراء والنقاد … الشاعر (عاطف عبد العزيز) الذي أدار الندوة، والشاعر (فتحي عبد الله)، والناقد (.يسري عبد الله)، إضافة إلى بعض الحضور من الأدباء والجمهور من متذوقي الشعر. ويُذكر أن (هواء المنسيين) هو الديوان الخامس لـ (غادة نبيل) ويتضمن عشر قصائد، وقد أصدرت قبله (4) دواوين تؤصل لتجربتها الشعرية، هي على الترتيب … المتربصة بنفسها 1999، كأنني أريد 2005، أصلح لحياة أخرى 2008، وتطريز بن لادن 2010.
ألعاب المراوغة
«مَسّني أسد قديم بالعجز/مرضت/ثم نهضت أداوي غربتي بألحان فارسية/تبهرني أحاديث الهرطقة/والرجال دون ربطات عنق … أنا القابلة التي لم تقبل أي شيء/تحييني تعويضات الحرب/ووسامة العابرين/ألتقط عصاي كساحرات دلفي/لأضرب ليلاً طويلاً/كأطول أفعى/وأبتسم بحياد». من قصيدة (القابلة).
ربما تصلح هذه القصيدة كمُفتتح للدخول إلى عالم الديوان، عالم الأساطير المتجاوز، وأفعال شخصيات تتماس وتحتل روح القصيدة (إيقاعها) وروح صاحبتها التي تتخفى عبر قصائد الديوان، وتظهر من خلال ملمح هنا وآخر هناك، رغم التصريح المباشر في بداية الديوان بالتساؤل عمن تكون هي (غادة نبيل). هذه المباشرة التي تتلون عبْر القصائد، ليبدو السؤال البدهي، أعقد مما يوحي بكثير. ولعل ابتسامة الحياد هذه هي الدالة على تجارب واندماج عبر شخصيات وحكايات لا تحصى، جاءت في لغة مكثفة، تعتمد الحركة والحكي في المقام الأول. وقد تناول مناقشو الديوان بعض الأوجه الكثيرة التي تتحملها نصوصه، من خلال أوراق شِبه بحثية/نقدية، سواء للبحث عن البنيات أو الجماليات التي يزخر بها، ويكشف عنها في مراوغة مُجهِدة، رغم البساطة البادية في بناء السطر الشعري، أو الصورة التكوينية للقصيدة الواحدة، أو الديوان بالكامل.
خلق الفضاء الشعري
أشار الشاعر (عاطف عبد العزيز) في البداية إلى ملامح الديوان الأساسية، والتجربة المتميزة للشاعرة، من حيث المزج بين تذكاراتها الشخصية وبين ذكريات البشر وتجاربهم، عبر حيوات وأزمنة وعقائد مختلفة، لتنتج عن ذلك تركيبة معقدة خلاّقة لنفس إنسانية متجاوزة الحدود الجغرافية، فالشاعرة عمدت إلى إسقاط تعقيدات الجغرافيا المُفتعلة لحساب تعقيدات النفس البشرية، وبالتالي خلق فضاء للنص الشعري مُتجاوز لحدود المُتعارف عليه، سواء من خلال سرد الحكايات وتداخلها، أو من خلال مزج عناصر الأساطير المحتلفة في أسطورة تخص الشاعرة وحدها.
شعرية الاستشراق
بين الصراع الاجتماعي وما بعد الحداثة
تحت هذا العنوان قدّم الشاعر (فتحي عبد الله) قراءة في الديوان، ليبدأ بمناقشة الصراع الاجتماعي ودور ما بعد الحداثة في إعادة صياغته، فتأتي المقارنة بين المقدس والوعي الاستعماري، حيث كل منهما يكرّس للاستبداد، وإن كان في شكل عسكري يدّعي الحداثة، فكل من المقدس والعسكري يدمر الوعي الفكري لهذه الجماعات. ويصبح الخيار هو النزوع لكل ما هو إنساني وكوني، مادياً وروحياً، والأخير يتمثل في الأديان العابرة للقومية، وهو لم يزل يعمل في منطقتنا وثقافتها، وعلى اتصال حقيقي بما يحدث الآن.
الاستشراق
لذلك نجد انحياز شعراء وروائيين إلى خيار الاستشراق تحت مسميات عديدة، أهمها التصوف. ومن التجارب الاستشراقية في قصيدة النثر ديوان «هواء المنسيين» لما به من نغمة شعرية عالية تتقاطع مع العالم، بعيداً عن التمايز الثقافي والجغرافي، فالنصوص ذات طابع كوني، تتداخل فيها العرقيات والديانات، دون عنصرية وتعال، بل خلق حالة إنسانية واحدة عبر الثقافات.
مظاهر ما بعد الحداثة
ويستطرد (عبد الله) باحثاً عن مظاهر ما بعد الحداثة، مؤكداً وجودها من خلال اللغة الشفافة، وبساطة التركيب والعلاقات الواضحة، والأساليب القريبة من المُتداول اليومي .. كالمُشافهة والحكايات اليومية، إضافة إلى اللغة الداخلية/الاستبطانية، حيث العلاقات السريّة بين أبناء الجماعة البشرية والأشياء. وبالتالي فالاشراق يُقدم فعل الذات في مواجهة المجتمع، الذات هنا تتفاعل مع نفسها، فالصراع من مكوناتها الأساسية، فالصراع في تجربة الشاعرة داخلي، والخارج يبرر ذلك، (أغنية الميلاد) مثلاً، وهي أكثر القصائد تحقيقاً للشعرية، حيث الزمن متداخل لا يمكن تحديده، ولا هناك تراتبية في الأحداث، بل يعتمد النص على الحدث والتفاعلات الناتجه عنه.
«عند شجرة مُباركة/سأتوقف عن الجري/ليس قبلها/سأضع طفلي/ثم ستصل أنت/بعدي بقرون/وتجده كما هو/مازال يرضع/فأنا كنت أفرغت له كل حليب ثديي».
السرد الحكائي
كما أشار الشاعر (فتحي عبد الله) إلى البناء الدرامي الحاكم لكافة النصوص، فهناك حكاية ملتزمة بقواعد البناء الدرامي من بداية ووسط ونهاية، هذا البناء الكلاسيكي الفضفاض من خلال الديوان، مما جعله يقوم بالكامل على السرد والحكاية، وهذا ليس جديداً على قصيدة النثر العربية. ولكن في تجربة الشاعرة تم استخدام الحكاية الأسطورية، حتى ولو لم يكن النص قائماً على مفردات أسطورية، الأسطورية هنا تنبع من طبيعة الشخصيات المُختارة نفسها، وبالتالي تمارس أفعالاً خارج نطاق البناء العقلي وطريقة اكتشاف الأشياء أو الأحداث.
الخيال الأكثر صدقاً
واختتمت المُناقشة بقراءة (د. يسري عبد الله)، التي جاءت تحت عنوان (محاولة لكتابة قصيدة صادقة)، لافتاً إلى أن تجربة الشاعرة حاولت الجمع بين أشياء بعيدة وما يحصل للذات، بداية من وردة طاغور وما يوحي به هذا العالم، فهناك تواصل بين ثقافات وعوالم مختلفة مع رصد الهامشي فيها، دون المُتعارف عليه للجميع … كحالة (طاغور) و(فيكتوريا أوكامبو) التي استضافته حينما مرض، فاستعادة طاغور تعني استعادة قيم روحية بالأساس، هذا التوظيف لمفردات المجتمع الهندي من أساطير وفانتازيا في رؤية العالم، خلقت منه الشاعرة عالمها الخاص، فتحوّل من عوالم مُتعيّنة إلى عوالم مُتخيّلة أكثر صدقاً. وما بين الراهن والماضي تتشكل مساحات من الزمن، تتكئ على الأسطورة، وكذلك ما بين ثنائية المُستعمِر والمُستعمَر، فالتاج البريطاني يهيمن على الفضاء الهندي، مما يؤدي بنا إلى جدلية الذات الشاعرة والمؤلف الضمني طوال نصوص الديوان.
محمد عبد الرحيم