“الغفران هو الشذا الذي يلقيه زهر البنفسج على القدم التي داست عليه” -مارك تواين.
رسالة بريد إلكتروني قاسية:
تلقيت مؤخراً رسالة بريد إلكتروني قاسية وغاضبة من امرأةٍ تتهمني زوراً بأمرٍ على المستوى الشخصي. لقد صدمتني رسالتها وجرحتني في الصَّميم. لذا ثارت غريزة “امرأة الكهف” في داخلي وحثَّتني على أن أكتب لها ردَّاً مؤلماً من مبدأ الدِّفاع عن النفس. لكن غريزة “المرأة المتحضرة” طالبتني بكتابة رسالة لها، أكتب فيها قائمة بالأسباب التي توضح لها لم هي مخطئة، في محاولة لتفنيد ادعاءاتها الكاذبة، وبالتالي الدفاع عن كبريائي.
إلا أنَّ نفسي العقلانية أدركت في نهاية المطاف أنَّ الرَّد عليها لن يؤدي إلا إلى المزيد من السَّلبية، لذا لم أقم بهذا الأمر. لأستيقظ صباح اليوم التالي بصحبةَ أفكار دفاعية تجول في رأسي، مثل سحابة مظلمة تظلِّلني. كانت أفكار الانتقام تتراقص في ذهني فيما بدا أنَّها حلقة مفرغةٌ لا تنتهي. لقد كرهت ذلك الشُّعور.
وعلى الرَّغم من أنني علمت بفطرتي أنَّني لن أصل لأي مكان عبر الشعور بالضيق والانزعاج والإساءة، إلا أنَّني شعرت أنَّه من المستحيل عليَّ أن أسيطر على هذه الأفكار، وأوقف شعور الضِّيق النَّاتج عنها. كنت أعلم أنَّني يجب أن أُنَفِّسَ عن مشاعر الغضب تلك لكي أُروِّحَ عن نفسي. إذ إنَّ مفتاح الحرية العقلية يكمن في نفسي، وليس في أي مكانٍ آخر.
ما الذي يمكن للمرء فعله لكي يتغلَّب على أنماط التَّفكير السَّلبية تلك؟ وما الذي يمكننا القيام به لكي نخلص أنفسنا من المشاعر التي تلقيها علينا أفعال الآخرين؟
رصد مشاعر الاستياء:
عندما نفتش عميقاً عن جذور الاستياء والغضب، نجد أنَّ السَّبب يتعلق دائماً بالكبرياء ومحاولة العقل لمنعه من الزَّوال. وعندما تمعّنتُ مليَّاً في الموقف الذي ذكرته آنفاً، وجدت أنَّني قد اختبرت مجموعة الأفكار والمشاعر هذه:
- صدمة في الكبرياء: أحسست بمشاعر الصدمة، تلاها ارتفاعٌ في معدل ضربات القلب. إذ كان باستطاعتي أن أدرك أنَّ كبريائي قد جُرح.
- غرائز حيوانية: عندما يجرح كبرياؤنا، تتحول عقلية “رجل الكهف” التي تسكنُ نفوسنا إلى وضعية الهجوم بسرعة. حتى وإن أدركتَ أنَّ الموقف لا يستأهل كثيراً أن تفكِّر بهذه العقلية، إلا أنَّ عقلية “رجل الكهف” التي تعشِّشُ في نفوسنا ما تزال موجودة، وستدفعك لأن تشعر بما يدعوه علم النَّفس بـ “الغرائز الحيوانيَّة”.
لكن ما هي تلك الغرائز؟ ولم لا تزال موجودةً لحدِّ الآن في نفوسناً؟ حسناً، لكي نجيب على هذا السؤال، لا بدَّ لنا من العودة لتلك الحقبة الغابرة.
في الحقبة التي عاش فيها رجل الكهف، إن لم يقم المرء بالانتقام ممَّن يؤذيه، فسيتعرض للقتل في نهاية المطاف. لذلك تعمل هذه الغريزة كآلية نجاةٍ واستجابة طبيعية جرَّاءَ تعرضنا لأيِّ نوعٍ من الهجوم. لذا أعتقد أنَّ فهمنا لأصل تلك الغرائز هو أمرٌ بالغ الأهميَّة لتقبل ميولنا التَّفاعلية وللتَّحكم بهذه الغرائز بشكلٍ كامل.
- الدفاع عن كرامتي: في محاولة مني للدِّفاع عن كرامتي بسبب تلك الاتهاماتٍ الجائرة، أعدَّت عقلية “رجل الكهف” لديَّ خطةً استراتيجيةً للدِّفاع عن نفسي وشنِّ هجومٍ مضاد. تضمنت تلك الخطَّة قائمةً بأشياء مؤذية أتوجَّه بها ضدَّ من أساءت لي.
- الغضب المتجذِّر: وجدت أنَّني كلما فكَّرت أكثر في طريقةِ تعرضي للإساءة، كلما غُصتُ أعمقَ في مشاعر الاستياء، واليأس حتَّى.
- “يموت رجل الكهف إن هو تركَ قبيلته”: بوصفه مخلوقاً اجتماعياً، يُلقي رجل الكهف داخلنا بالاً لما يفكر فيه الآخرون تجاهنا، لأنَّه إن لم يُعجَب بنا الآخرون، فقد يتم طردنا من “القبيلة”. وبالعودة مجدداً لتلك الحقبة التي عاش فيها رجل الكهف، فإنَّ الحياة خارج القبيلة تعني التَّعرض لمصاعب فورية والموت لاحقاً. وهذا هو سبب قلقنا وعدم اتِّزاننا عندما نعلم أنَّ الآخرين يفكرون بنا بشكلٍ سيء.
- الدفاع عن كرامتنا هو مثل قتال رجال الكهوف الآخرين: عندما يتقاتل رجل الكهف في داخلنا مع رجل كهفٍ آخر، لا أحد منهم ينتصر. إذ نقاتل مدفوعين بغريزتنا من أجل البقاء والدِّفاع عن كرامتنا التي تعرضت للإساءة. لنجد أنَّه في النهاية، لا أحد ينتصر. حيث أنَّنا لم نعد نعيش في العصر الحجري، ولم يعد لقتلنا بعضنا البعض ضرورةً قصوى.
كيف تتغلَّب على الشُّعور بالاستياء؟
أنا لا أقترح هنا أن نكبت أو ننكر مشاعرنا تلك، لكن أقترح بدلاً من ذلك أن نستخدم طرقاً مسؤولة للتَّعامل مع هذه المشاعر غير السَّارة، كي لا نكون عبيداً لردود أفعالنا تجاه غرائزنا البدائية.
وعلى قدر ما قد يبدو الأمر بالغ الصُّعوبة حين نشعر بالغضب تجاه أحدهم، فإنَّ مفاتيح التَّغلب على هذا النَّوع من المشاعر تكمن أولاً في فهمها، وأخيراً في التَّسامح. لعلَّ ذلك قد يكون منافٍ للفطرة، ذلك لأنَّ غرائزنا تخبرنا بأنَّنا بحاجة إلى أن ندافع عن أنفسنا، أو ربما لأن نجد طرقاً نؤذي بها من أساءَ إلينا.
يمنحنا فهمنا للإساءة نظرةً ثاقبة لما يشعر به الشَّخص الآخر. وحتى قبل أن نصل إلى مرحلة الغفران، فإنَّ فهمنا لذلك سيخفف تلقائياً بعض الأوزار العاطفية التي نحملها. لكن قبل أن نسعى إلى الوصول لفهمنا ذاك، نحتاج إلى إيجاد مكان للوضوح داخل أنفسنا. وهذا الوضوح سيعني بالضَّرورة ألَّا نتصرف انطلاقاً من عواطفنا أو غريزة الدِّفاع عن النَّفس المتأصِّلة فينا.
وعندما نتمكن من النَّأي بأنفسنا عن عقلية رجل الكهف تلك، نصبح قادرين على رؤية الوضع على حقيقته. كما سيتضح لنا بسرعة أنَّ ذلك الشخص كان يتصرف انطلاقاً من عقليَّة رجل الكهف المتأصِّلة فيه، والتي تعمي بصيرته.
والآن، دعنا نتعمّق في كل خطوة رئيسية للتَّغلب على هذه المشاعر المزعجة:
1. الوضوح:
الهدف من هذه الخطوة هو أن تشعر أنَّك على ما يرام. فعندما تكون عقولنا ملأى بأفكارٍ عشوائية من الألم والاستياء، يصبح من شبه المستحيل أن نستطيع التَّغلب على أيِّ شيء. لذا يصبح لزاماً علينا أن نتصالح مع أنفسنا أولاً. وعندما نسعى إلى إيجاد سلامنا الدَّاخلي والوضوح العقلي، فإنَّنا نُوجِد مساحة داخل أنفسنا تساعدنا على تضميد جراحنا. فإن لم نقم بذلك، سنبقى أسرى دوامةٍ لا تنتهي من الألم والمعاناة التي لا داعيَ لهما.
يمكنك أن تحصل على ذلك الوضوح عبر قيامك بالأمور التَّالية:
- نفِّس عن مشاعرك: قم بذلك بشكلٍ صائب؛ من دون إيذاء أيِّ شخص (بما في ذلك نفسك). فإن شعرت بالغضب، فعبِّر عن هذا الغضب لفظياً عندما تكون بمفردك، بقصد التَّنفيس عنه بالكامل. أصغِ لجسدك فيما يتعلق بكيفية التنفيس عن هذه الطاقة السَّلبية. وامنح نفسك مهلة زمنية تتراوح من 5 إلى 10 دقائق تعبر فيها عن كامل غضبك، لفظياً كان أم كتابياً. أو يمكنك بدلاً من ذلك أن تذهب للركض أو المشي لمسافاتٍ طويلة، أو أن تمارس السباحة مثلاً. يجد الكثير من الناس أن التمارين الرياضية وسيلة فعالة لإطلاق تلك الطاقة السَّلبية السَّامة.
- سيطر على مشاعرك: ذكِّر نفسك أنَّك تتحكم بأفكارك وأفعالك. فأنتَ لست بعاجزٍ أبداً أو في حالة يرثى لها مثلما سيدفعك كبرياؤك لأن تعتقد. وأيضاً ذكِّر نفسك بذلك الشَّخص المسؤول الذي أنت عليه، وذلك باستخدام التَّعريف الحقيقي للمسؤولية: وهي القدرة على الاستجابة والسَّيطرة على تصرفاتنا وردود أفعالنا. حدد السيناريو الأسوأ واقبل به. وستجد غالباً أنَّ السِّيناريو الأسوأ الذي يحدث، ليس بتلك الدرجة من السوء الذي يبدو عليه ذلك السيناريو المروِّع الذي قد تخيلته في عقلك.
2. التفاهم:
الآن وقد وضعنا عقلية رجل الكهف جانباً، يمكننا أن ننظر للأمر بموضوعية كي نراه على حقيقته. كما نستطيع أن نفهم ما الذي يجعل الشخص الآخر يتصرف بتلك الطريقة بالذات. في معظم الحالات، وبمجرد ما إن نكتشف السَّبب وراء سلوكهم هذا، سنجد أنَّ الأمر في كثير من الأحيان ليس عبارةً عن هجومٍ ضدك، بل هو انعكاس لغريزتهم البدائية لحماية أنفسهم.
ومع تكويننا فكرةً واضحةً ومحددة عن موقفهم، سنجد أنَّنا قد تعلمنا شيئاً ذا قيمةٍ من شأنه أن يعود بالإيجاب على سعادتنا ورفاهيتنا مستقبلاً. لذا عندما تنظر إلى الأمر بموضوعية، ستكتشف الأمور التَّالية:
- إنَّ الأمر ليس شخصياً: عندما يشعر النَّاس بالأسى، لا يمكنهم سوى نقل تلك الطاقة للآخرين. فعندما يتواصل النَّاس معك بطريقة مؤذية، فهذا لا يعني أن يكون الأمر شخصياً، بل هو انعكاس لحالتهم الداخلية.
- العدو المتألّم: ابحث عن السيناريوهات التي تكون قد دفعتهم إلى معاملتك بطريقة مؤذية. فلعلهم يشعرون بحالة متجذِّرة من الإحباط والاضطراب العاطفي؛ لدرجة أنَّهم قد فقدوا القدرة على التَّواصل بعقلانية بما يخصُّ مراعاة مشاعر الآخرين. لذا اسع لأنَّ تفهم أنَّ الناس بطبيعتهم لا يريدون إلحاق الأذى بالآخرين، ولكنَّ الظروف التي تودي بهم إلى التَّفكير بعقليَّة “رجل الكهف”، هي ما يجعلهم يتصرفون من مبدأ الدفاع عن النفس.
- هم أحرارٌ في رأيهم: سلِّم بأنَّه من المقبول أن يكون لديهم أفكاراً أو مشاعرَ سلبيّة تجاهك. فهم مثلك تماماً؛ أحرار في آرائهم وطريقة تفكيرهم. لذا قرر أنَّه من الأفضل أن تتقبلهم وتتسامح معهم. وقم بالشَّيء الصحيح عبر البقاء صادقاً مع نفسك. إذ إن كنا لا نقدر على ضبط تصرفات الآخرين، فَلِمَ نُهدر طاقتنا على ذلك إذاً؟ لذا دع الآخرين وشأنهم، وتصالح مع ذلك.
3. التَّسامح:
“إنَّ عدم التَّسامح مع أحدهم يشبه شرب السُّم وانتظار أن يموت الشَّخص الآخر”.
إنَّ التَّسامح مع الآخرين هو عملية تدريجية، وتفهُّم الآخرين هو ما يوصلنا إليها. لكن إن لم نحاول أن نغفر للآخرين زلَّاتهم، فلن نؤذي سوى أنفسنا. الهدف من ذلك هو التَّصالح مع الموقف والمضي قدماً في حياتنا. فالحياة أقصر من أن نعيشها مُرْتَهنِينَ للماضي، أو أن نجعل من أنفسنا رهينةً لآراء الآخرين ونظرتهم لنا. لذا مُنَّ عليهم بالغفران والشَّفقة وتفهُّم تصرفاتهم.
واعلم أنَّه إن لم تتصالح مع نفسك أولاً، فلن تتصالح مع الآخرين؛ والعكس بالعكس. لذا اغفر للآخرين أخطاءهم ولا تقف عندها، فما حدث قد حدث ولن تقدر على عكس عقارب السَّاعة. وشعورك بالأسى والاستياء لن يقدم ولن يؤخِّر في هذه الحالة.
المصدر.